الأربعاء 16 يوليو 2025 م - 20 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

بعض الفقد فجيعة

بعض الفقد فجيعة
الاثنين - 10 فبراير 2025 02:30 م

سعود بن علي الحارثي

410

نص تأبيني فـي رحيل الشيخ عبدالله بن حمد بن سليمان الحارثي

الموتُ حقٌّ، وقضاءُ اللهِ نافذ، فلا رادَّ له ولا مانع، والتَّسليمُ بالقدر يأتي في أعلى مراتب الإيمان، ونعيش في الدنيا بَيْنَ مولودٍ ومفقود، وبعض الفقدِ فجيعة عظيمة، ورحيل الشَّخصيَّات الاستثنائيَّة عن حياتنا يترك فراغًا لا يُسَدُّ، تتوَحَّش أمكنة، وتتلاشَى قِيَم وأعراف، ويتفرق جَمْع، وتتوقف أقدام حشد كبير عن التزاحم والسَّير إِلَيْها ـ أي الأمكنة ـ وتوصدُ أبواب، ونودِّع بوداعهم قائمة من المشاهد والمواقف والمُثل والخصال الطيِّبة الحميدة، فينطبق على رحيلهم قول الشَّاعر «وما كان قيس موته موت واحد * ولكنه بنيان قوم تهدما». وهذا هو ما يتمثله واقعًا فِراق الشَّيخ الجليل عبدالله بن حمد بن سليمان الحارثي، الَّذي رحلَ عن دُنيانا يوم الأحد العاشر من شعبان 1446 هجريَّة الموافق التَّاسع من فبراير 2025م. فهو من صِنف الرِّجال الكبار الَّذين ينطبقُ عَلَيْهم وصفُ حسَّان بن ثابت «بِيض الوجوه كريمة أحسابهم * شم الأنوف من الطراز الأول»، عِندَما يتحدث في المجالس الغاصَّة بالشَّخصيَّات على انتماءاتها العلميَّة والفكريَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة ومستوياتها العمريَّة، يكُونُ المُتسيِّد بلا منازع بوجاهتِه ومَهابته ورزانته وحِكمته وحِنكته وعلوِّ مكانته وقامته وباعِه وثرائه الثَّقافي والمالي الواسعَيْنِ، كيف لا؟ وهو المتحدث اللَّبق بعذبِ كلامِه وأناقة عباراته وسُموِّ وقِيمة الموضوعات والمحاور والمواقف الَّتي يعرض لها والملفات الَّتي يفتحُها بثقةٍ واقتدار وسعةِ بالٍ على دسامتها وحساسيَّتها وعُمقها، هو القارئ الحصيف المُتنبِّئ بأحداث المستقبل، هو راسم النِّقاط على الحروف بلا منازع، وبه وعَلَيْه يختم الجدل ويتحوَّل الشَّك إلى يقين، بصفتِه الشَّاهد والمتلقِّي الأوحد لتفاصيل أحداث عصر امتدَّ لأكثر من مئة عام. ولأنَّه القارئ النَّهم والحافظ الحجَّة والجامع لأخبار العرب وتاريخهم وآدابهم وسِيَر شخصيَّاتهم وملاحمهم، والمُلمُّ بثقافة العُمانيِّين وأعرافهم وتقاليدهم ومجالسهم وأعمالهم الجليلة ودَوْرهم الحضاري، فقد جالسَ السَّلاطين والأئمَّة وشيوخ القبائل وزعاماتها ووجهاء العرب والعجم، وربطتْه بِهم علاقات وحوارات ومراسلات، وبَيْنَه وبَيْنَهم الكثير الكثير من الأسرار، الَّتي ضمَّن بعضها ابنه الأخ محمد «أبا القاسم»، في «موسوعة عُمان». سافرَ وطافَ مُعْظم بُلدان العالَم، وخبرَ الشُّعوب وتعاملَ معهم وعاشَ بَيْنَهم، وأقام في العديد من بُلدان العالَم الَّتي امتلكَ فيها منازل فخمة وحدائق غنَّاء كإسبانيا وفرنسا وتركيا وشرق إفريقيا والسُّعوديَّة... يذكُر أخوه الشَّيخ سعيد بن حمد الحارثي ذلك إبَّان زيارته لإسبانيا «زرت أبا مرداس في عرينه * الألمعي الفذ في تخمينه * جميله أذهب كل كربة * فما شعرت أبدا بغربة * في بيته الأنيق في الأندلس * بيت يرى كدرة في محبس * تحفه أشجاره في بعده * وقربه كملك في جنده * ما أطيب الثراء عند الطاعة * وما أمر الفقر والخلاعة». عِندَما أجلسُ في حضرة الشَّيخ الجليل في مجلس من مجالسه، أو الأخرى الَّتي يتصدرها أشعر بأنَّني أمام بحرٍ زاخرٍ لا ينضَب، وموسوعة حَوَتْ كُلَّ شيء، وأعيش بجنبه وعلى وقعِ حديثه الموزون المتدفِّق تدفُّق الجداول في الواحات الغنَّاء مع شخصيَّات العرب المجيدة والمتفرِّدة عزةً وجودًا وجرأة ووفاء وشموخًا، فقَدْ أخذَ الخصالَ والمناقب الَّتي تلبَّسوها. كان كريمًا مُحبًّا للقاءات والاجتماعات، وله في السَّنة أيَّام معروفة ننتظرها بشوقٍ، يدعو في مجالسه الواسعة والفخمة في المضيرب ببيت «النطاله»، و»كلبوه» و»المصنعة» ـ قَبل ذلك بعقود ـ جمعًا من الشَّخصيَّات العلميَّة والثَّقافيَّة والسِّياسيَّة ووجوه وزعامات القبائل، وإخوانه وبني عمِّه على موائد عامرة بالخيرات وحوارات وذكريات حافلة غنيَّة بالأحداث والموضوعات الشيِّقة. عُرف عَنْه الوفاء والبِر بأقربائه ورحمِه والسُّؤال عَنْهم والبحث والتَّعرُّف على أحوالهم، وإلمامه وإحاطته بالأنساب، وكانتْ أُمِّي ـ رحمَها الله وغفرَ لها ـ وهي ابنة خالته تشعُر بالوجَل والقلَق كُلَّما زارته أو زارَها بسببِ أسئلتِه الدَّقيقة عن أخبار وأوضاع أقاربِهما ومَن تربطه بِهما روابط رحمِ الأبعدِينَ مِنْهم والأقربِينَ وبأسمائهم؛ لأنَّ مستواها أقلُّ بكثيرٍ مِنْه بمعرفتهم وتتبُّع شؤونهم مع أنَّ بعضَهم أقربُ إِلَيْها صلةَ رحمٍ مِنْه. رحمَه اللهُ وغفرَ له، وأسكنَه فسيح جناته، و«إنَّا لله وإنَّا إِلَيْه راجعون».

سعود بن علي الحارثي

[email protected]