لا يُمكِنُ فصلُ التَّاريخ العُماني عن ملامح الهُوِيَّة الوطنيَّة، فهو ليس مجرَّد أحداث مدوَّنة في الكتب، بل هو تجربة إنسانيَّة صنعَتْها الأجيال المتعاقبة، وأسَّستْ لروحِ الانتماء والتميُّز. فعلى مرِّ العصور لم تكُنْ عُمان مجرَّد نقطة جغرافيَّة، بل كانتْ محطَّة تواصل بَيْنَ الحضارات، وساحةً للحراك السِّياسي والاقتصادي والثَّقافي، فهذه الخصوصيَّة التَّاريخيَّة لم تأتِ من فراغ، بل من إرثٍ طويل من التَّفاعل الذَّكي مع المتغيِّرات، حيثُ صاغ العُمانيُّون نموذجًا فريدًا في الاستقلاليَّة والانفتاح الواعي على العالَم. ولعلَّ التَّوجيهات السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه ـ بتسمية بعض الطُّرق والمعالِم الوطنيَّة بأسماء القادة العُمانيِّين، تعكس إدراكًا عميقًا لأهميَّة التَّاريخ في بناء الهُوِيَّة، وتجعل مِنْه جزءًا من الحياة اليوميَّة، حيثُ يُصبح العابر في هذه الطُّرق أمام فرصة لاستعادة الذَّاكرة الوطنيَّة بأُسلوب تلقائي يرسِّخ لدَيْه الإحساس بالامتداد التَّاريخي لوطنِه.
إنَّنا كبَشَر لنَا سِمات واحدة، مهما اختلف العِرق أو العقيدة، أو الأوطان، وأهمُّ تلك السِّمات البَشَريَّة هو الفضول الَّذي يدفعُنا للتَّساؤل عن الأسماء المنقوشة على الشَّوارع والجسور، وعن الشَّخصيَّات الَّتي حملتْ عُمان على أكتافها في أزمنة مضتْ. واليوم تتحوَّل هذه التَّسميات إلى فرصة ذهبيَّة للأجيال الجديدة لاكتشاف رموزهم التَّاريخيَّة دُونَ الحاجةِ إلى محاضراتٍ جامدة، فعِندَما يمرُّ شابٌّ بطريقٍ يحملُ اِسْمَ سُلطانٍ أو قائدٍ، رُبَّما يُثير ذلك تساؤلات تدفعه إلى البحث، أو رُبَّما تكُونُ تلك اللَّمحة العابرة كفيلةً بزرع بذرة اهتمام تدفعه لاحقًا لاستكشاف تاريخ بلاده بعيونٍ مختلفة، هذا الدَّمج الذَّكي بَيْنَ الجغرافيا والتَّاريخ يُعزِّز الهُوِيَّة الوطنيَّة بأُسلوبٍ غير مباشر لكنَّه فعَّال، حيثُ تتحوَّل الطُّرق من مجرَّد مسارات للحركة إلى جسورٍ تُعِيدُ وصلَ الحاضر بالماضي.. وبذلك، لا تبقَى الهُوِيَّة الوطنيَّة مجرَّد شعارات تُردَّد، بل تُصبح جزءًا من تفاصيل الحياة اليوميَّة الَّتي يعيشُها المواطن.
لكنَّ هذه الخطوة تحملُ بُعدًا آخر يتجاوز تعزيز الهُوِيَّة، وهو البُعد الاقتصادي والسِّياحي، فكثيرٌ من الدوَل استطاعتْ استثمارَ تاريخِها بذكاءٍ، وتحويلَه إلى عنصر جذب ثقافي وسياحي، فلماذا لا تستفيد عُمان من هذه التَّجربة؟ يُمكِنُ أنْ تكُونَ هذه التَّسميات نقطة انطلاق لمبادراتٍ أوسع، مِثل تطوير تطبيقات ذكيَّة تُتيح للسيَّاح والسكَّان معرفة القصَّة الكاملة وراء كُلِّ اِسْمٍ، أو تثبيت لوحات تفاعليَّة مزوَّدة بتقنيَّات الواقع المعزّز، تروي سِيرة القائد الَّذي حملَ الطَّريق اِسْمَه، نتصوَّر مشهدًا سياحيًّا مختلفًا، حيثُ يقفُ الزَّائر أمام لوحةٍ تفاعليَّة في أحَد شوارع مسقط، لِيجدَ نَفْسَه في رحلةٍ عَبْرَ الزَّمن، يتعرَّف فيها على إنجازات القادة العُمانيِّين بأُسلوبٍ حديثٍ ومُمتع. فالتَّاريخ حين يُقدَّم بأُسلوبٍ معاصر، يتحوَّل من مادَّة جامدة إلى تجربة حيَّة، تُسهم في إبراز الهُوِيَّة العُمانيَّة بطريقةٍ جذَّابة ومؤثِّرة، وتُضيف بُعدًا جديدًا للسِّياحة الثَّقافيَّة في السَّلطنة.
في النِّهاية، تبقَى هذه المبادرة خطوةً في الاتِّجاه الصَّحيح، لكنَّها لن تؤتيَ ثمارها كاملةً ما لم تتكاملْ مع جهودٍ أُخرى تُعزِّز الوعيَ بالتَّاريخ العُماني في مختلف القِطاعات، وعَلَيْنا أنْ نجعلَ دراسة التَّاريخ أكثر تشويقًا في المناهج الدراسيَّة، وأنْ نبتكرَ أساليب جديدة في تقديمه، سواء عَبْرَ الأفلام الوثائقيَّة أو الفعاليَّات الثَّقافيَّة الَّتي تُعيد إحياء قصص القادة العُمانيِّين بطريقةٍ تفاعليَّة.. الإعلام بِدَوْره، يُمكِنُ أنْ يؤدِّيَ دَوْرًا محوريًّا في تحويل هذه الأسماء من مجرَّد لافتات إلى روايات ممتدَّة في وجدان النَّاس، فالتَّاريخ ليس مجرَّد ماضٍ يُستذكر، بل هو طاقة مُتجدِّدة يُمكِنُ أنْ تُلهمَ الحاضر وتصوغَ المستقبل، والمُجتمع الَّذي يدركُ قِيمةَ تاريخِه، هو وحْدَه القادر على المُضي بثقةٍ نَحْوَ مستقبل أكثر إشراقًا، قائم على الفخر بالهُوِيَّة والوعي العميق بمَسيرة هذا الوطن العريق.