أولًا: السَّفر والكتابة:
كُلَّما أنجزتُ تطوافًا جديدًا يُضاف إلى سابقاته، واكتشفتُ بلدًا مختارًا لم أزُرْه من قَبل، وانغمستُ في أحضان مُدُن جذَّابة تميَّزت بالتنوُّع، ثقافةً وتمدُّنًا وعمارةً وتاريخًا حضاريًّا مشبعًا بالصروح والمعالم والآثار المدهشة، وكُلَّما أنهيت كذلك، قراءة كِتاب غني بالمحتوى في أدب الرحلات والسَّفر وتقدير قِيمتهما الثَّقافيَّة، تعمَّق إيماني وارتفع مستوى الشَّغف والحماس، وتقديري لمنافعهما ودَوْرهما في تعزيز الوعي وتوسيع فضاءات المعرفة والتعلُّم، وما يرفع من الإحساس بالسَّعادة في نفسي ويضاعف بهجتي أنَّني وثَّقتُ وكتبتُ ونشرتُ المئات من المقالات عن رحلاتي وأسفاري الَّتي قمتُ بها إلى الكثير من دوَل العالم، فهي من الضرورات المكمِّلة لمقاصد التطواف، الَّتي أكَّد عَلَيْها المفكِّر والكاتب الفرنسي «لابرويير»، «ساخرًا من أولئك الَّذين يقومون برحلات طويلة بدافع الاهتمام أو الفضول، «لكنَّهم لا يكتبون عَنْها مذكّرات أو ملاحظات.. الَّذين يذهبون ليروا ولا يرون، أو ينسوا ما رأوه؛ الَّذين يريدون فقط معرفة أبراج جديدة وأجراس جديدة، وعبور أنهار غير نهري «السين» أو»اللوار»؛ الَّذين يغادرون وطنهم ليعودوا إِلَيْه، الَّذين يحبون الغياب، ويريدون العودة من البعيد يومًا ما»، وفقًا لِمَا أشار إِلَيْه الكاتب «إسكندر حبش» في واحدة من مقالاته الَّتي نشرها بعنوان «مرافئ بعيدة»، أغرقها بآراء وأقوال مفكرين وفلاسفة وشعراء، عن السَّفر، الَّذي يربط الشَّاعر والروائي الفرنسي «ميشال بوتو»، بَيْنَه وبَيْنَ الكِتابة، «فالسَّفر بالنِّسبة إِلَيْه، هو الكتابة، كما أنَّ الكِتابة هي سفر، فقد سافر دائمًا للكتابة»، فيما حثَّ الشَّاعر الفرنسي الكبير «شارل بودلير»، على السَّفر، وذلك بأن «نذهبَ ونعيشَ هناك.. لنحبَّ ونموتَ، في البلاد الَّتي تشبهنا»، أمَّا أنا ورغم عشقي للسَّفر، وهوايتي المُحبَّبة إلى قلبي، التسكُّع في أسواق وأزقَّة المُدُن والاستمتاع بالآثار والحضارة ومفردات الطبيعة والجَمال الَّتي تمتلكها، لكنَّني أخالفه الرأي، فلا أتمنَّى أن أشهدَ نهاية حياتي ومراسم دفني إلَّا في وطني... فيما يرى شاعر آخر «فيكتور سيجالين»، في السَّفر «علاقة مودَّة مع الأشياء المحيطة بنا». شخصيًّا، وعلى ضوء تجربة امتدَّت ما يقارب الأربعة عقود، أجدُ أنَّ السَّفرَ يبصرني ويريني حقيقة، كم هو العالم كبير، وفضاء الحياة لا يحدُّه حدود، أخرج من محليَّتي وأتجاوز إطار المكان الضيِّق والمحدود الَّذي أعيشه، فيجعلني التطواف أكثر إيمانًا وارتباطًا وثقة بعظمة الخالق جلَّ جلاله، الَّذي تتوسع من أبواب السَّفر ونوافذ الطَّائرات دلائل وجوده الَّتي لا تُنكر، وضعف الإنسان وقلَّة حيلته مهما بلغ عِلمه وشأوه أمام هذا الإعجاز الَّذي تحتشد قرائنه وحججه وشواهده في سماوات وفضاءات الكون الواسع والكبير. في السَّفر أتبَيْنُ إنجازات الإنسان الهائلة والمدهشة في الماضي والحاضر، الَّتي تفتخر بها شعوب وأُمم ودوَل كثيرة، الإرث الحضاري المتراكم عَبْرَ السِّنين والدُّهور، والصُّروح والآثار والأعراف والثَّقافات الَّتي ابتدعتها وطوَّرتها الحضارات والدوَل، وخلّدت قرونًا وعصورًا، تجسِّد القدرات والإبداع والإمكانات والإرادات القويَّة والصُّلبة للإنسان، وما بلغتْه دوَل كثيرة من تقدُّم وازدهار وعصرنة منقطعة النَّظير في العِلم والمعرفة والتقنيَّة والحداثة والفنون والعمارة، واستثمار وتوظيف الموارد والثروات والإمكانات في خدمة الأوطان والشُّعوب، وتيسير الحياة ومعالجة المُشْكلات وتحقيق النُّمو الاقتصادي والازدهار المعيشي... في السَّفر تتفتح العقول وتتسع المدارك ويتعمَّق الوعي، ويتعلم المسافر من المواقف والمشاهد والصوَر الكثيفة، ويستخلص الدُّروس والعِبَر والملاحظات والمقارنات والرؤى. وتظلُّ تجربة السَّفر ذِكرى مشبَّعة بالمعرفة والثَّقافة والخبرات... في السَّفر تستبينُ لنا حقائق كثيرة عن العولمة، وقِيَمها الثَّقافيَّة الَّتي تتوغل بَيْنَ الشُّعوب وتستحوذ على تفكير الأفراد، وتكتسح الأسواق وبيئات الأعمال وتؤتي ثمارها بتدفُّق الاستثمارات والأموال والعلامات التجاريَّة فتُهيمن على الدوَل والمُدُن والثَّقافات والأعراف والسِّياسات والقوانين والأنظمة، في السَّفر انغماس والتحام بأفواج البَشَر الهائلة الَّذين نتأمل ملامحهم وسحناتهم وأفعالهم، ونتحاور معهم، وننفتح على الدُّنيا بمعيَّتهم، ونتبادل مع بعضهم الخبرات والتجارب والمعلومات والهموم والأفكار في حوارات ونقاشات وسرد لا يتوقف، لُغات وانتماءات ومقاصد شتَّى وتباين في مستويات الأعمار والأشكال والتعليم والثَّقافة، نشاركهم رحلة الطَّائرة والقطار والحافلة ووسائل النَّقل والمحطَّات والمطارات والفنادق والمطاعم والمقاهي والأسواق والمواقع السياحيَّة والنزهات والتطواف... ملامح وشخوص وأماكن ومواقف تطبع في الذَّاكرة لا تُمحى، وأُخرى تتلاشى في لمحِ البصر، في السَّفر نكتشف مفاتن الطَّبيعة، وجَمالها السَّاحر وتنوُّعها فنعيش البهجة في أبهى صوَرها وأحاسيسها، وراحة البال والطّمأنينة، ونستشعر قِيمة الحياة وسُموَّها، فنشكر الله مضاعفًا على نِعمه الكثيرة والعظيمة والجليلة... نستطلع حُسن العمارة وإبداع المعماريِّين وفنونهم المدهشة في الفنادق والمطارات والأسواق والمُدُن والبنايات والقصور والمتاحف والمسارح والمكتبات ومشاريع الحداثة، ونتذوق أشكالًا من الأطعمة والمشروبات وخصائص وثقافة وتقاليد الشُّعوب، نمط حياتهم وسِير شخصيَّاتهم الملهمة... فما أعظم وأبهى وأجمل وأسمى السَّفر وفوائده وعوائده الجليلة... وجهتنا الجديدة الَّتي اخترناها بعد بحثٍ وعناية ونقاش موسَّع، مع زوجتي أُم محمد وأبنائي خديجة ومحمد وثريا ودعاء، وعلى ضوء تشجيع عدد من الأصدقاء، استقرَّتْ على «الصِّين»، فقد كانتْ وطنًا لحضارات وممالك متتالية عَبْرَ العصور، وتتميَّز بتنوُّع الطَّبيعة، صحارى وغابات، جبال عملاقة وسهوب، طقس استوائي وغابات وريف أخضر شاسع، وآخر صحراوي جاف... وتُعَدُّ الحضارة الصينيَّة إحدى أقدَم الحضارات في العالم، فقَدِ ازدهر النِّظام الملكي الوراثي عَبْرَ سلالات قويَّة، في حوض النَّهر الأصفر الخصب، بدأ من سلالة «شيا»، في فترة ما قَبل الميلاد بألفي سنَة، وانتهاء بسلالة «تشينج»، في العام ١٩١١م، وكُلُّ سلالة ومملكة تركتْ آثارًا وحضارة وتقاليد جعلتْ مِنْها بلدًا استثنائيًّا في غناه الثَّقافي والتَّاريخي والسِّياسي والاجتماعي. وتُعَدُّ الصين اليوم منافسًا شرسًا للغرب باقتصادها العملاق وصناعاتها المتقدِّمة وعلومها المتطوِّرة وابتكاراتها المتفرِّدة، ومساهمًا رائدًا في الثَّورة الرَّقميَّة والذَّكاء الاصطناعي، فهي أكبر مصدر للصِّناعات في العالم وثاني أكبر اقتصاد من حيث النَّاتج المحلِّي، والأسرع نموًّا دُونَ منازع... فلا مناصَ من الاستعجال في زيارة الصِّين ووضعها ضِمْن الوجهات الَّتي ينبغي أن تحظى بالأولويَّة، وهذا ما كان بفضل الله ومنَّته وتوفيقه. «يتبع».
سعود بن علي الحارثي