الأربعاء 05 فبراير 2025 م - 6 شعبان 1446 هـ
أخبار عاجلة

تجدد فكرة الترانسفير

الأربعاء - 05 فبراير 2025 01:50 م

د.أحمد مصطفى أحمد


ما طرحه الرَّئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن «نقل» فلسطينيِّين إلى الأردن ومصر ليس أمرًا جديدًا. وإذا كان ردُّ الفعل الأردني والمصري الرَّسمي الرَّافض لتلك الفكرة يُمكِن أن يؤجل هذا الأمر، إلا أنه لن يوقفَ سعي الاحتلال الصهيوني وداعمه الأول أميركا عن تجديد الفكرة باستمرار. وتعبير «نقل» هو تخفيف لفظي فقط لواقع المستهدف وهو «طرد» الفلسطينيِّين من أرضهم وإن استخدمت تعبيرات مثل النقل أو الترحيل أو غيرها. ربما يتصور البعض أن فكرة الطرد هذه وليدة الفترة الأخيرة الَّتي تولَّى فيها اليمين المتطرف السُّلطة في «إسرائيل»، لكنها قديمة جدًّا قِدَم بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين تحت الانتداب البريطاني مطلع القرن الماضي. ونتيجة مشاورات رسميَّة وغير رسميَّة في الحركة الصهيونيَّة، حتَّى قبل إعلان دولة الاحتلال منتصف القرن الماضي، اتفق على استخدام مصطلح «النقل» أو «الترانسفير» باللغة الإنجليزيَّة كتعبير يُمكِن أن يكُونَ مقبولًا إعلاميًّا خصوصًا لدَى الغرب ولا يثير جدلًا بشأن التطهير العِرقي والجرائم ضدَّ الإنسانيَّة. لكن الترانسفير هو في الواقع تطهير عِرقي وجريمة ضدَّ الإنسانيَّة.

غالبًا ما تزامنت عمليَّات الترانسفير مع المذابح والمجازر الَّتي ارتكبتها العصابات الصهيونيَّة الإرهابيَّة مثل اراجون وشتيرن وغيرهما. حيث كانت تُغير على البلدات والقرى الفلسطينيَّة تذبح سكَّانها وتحرق البيوت والأراضي الزراعيَّة ثم يُجبَر هؤلاء على الرحيل إلى مناطق أخرى في فلسطين أو خارجها في دول الجوار مثل الأردن ولبنان وغيرهما. وكانت مُخيَّمات اللاجئين الفلسطينيِّين، في داخل فلسطين وفي دول الجوار، نتيجة عمليَّات الترانسفير تلك. لكن الترانسفير لم يكُنْ قاصرًا على أوقات المذابح والحروب، إنما كان عمليَّة مستمرة وإن بوتيرة مختلفة في زمن السِّلم أيضًا. ولعلَّ أوضح عمليَّات الترانسفير الَّتي تمَّت «بهدوء» وعلى مدى فترة من الزمن هي محاولة إفراغ مدينة القدس من سكَّانها الأصليِّين. حتَّى أنَّ مصطلح الترانسفير في كثير من الدراسات ارتبط بِاِسْمِ رئيس بلديَّة القدس منذُ منتصف الستينيات إلى منتصف التسعينيَّات في القرن الماضي تيدي كوليك. واسمه الأصلي تيودور كوت، وهاجر من النمسا إلى فلسطين نهاية القرن التاسع عشر. وكادت خطط كوليك بشأن الترانسفير تصبح سياسة رسميَّة دائمة في فترة رئاسة شيمون بيريز حكومة حزب العمل قبل أكثر من ثلاثة عقود. وإذا كنَّا نتصور أنَّ حكومات الليكود، وهو حزب اليمين في الاحتلال، أكثر عنصريَّة من حكومات حزب العمل، الَّذي يُفترض أنه يساري تقدُّمي، فذلك تصور يجافي الواقع. إذ إنَّ توسع الاستيطان وعمليَّات الترانسفير لطالَما كانت أكثر في ظل حكومات حزب العمل.

مع تراجع الدعم العربي للفلسطينيِّين وأيضًا انقسام الفلسطينيِّين فيما بَيْنَهم زادت عمليَّات الترانسفير في السنوات الأخيرة لصالح توسع الاستيطان، خصوصًا في القدس والضفَّة الغربيَّة. لكن عمليَّات ترانسفير واسعة إلى خارج فلسطين ظلت مجرد طموح للاحتلال أكثر منها سياسة قابلة للتنفيذ. ومع صعود اليمين المتطرف العنصري إلى سُلطة الاحتلال، وبالتزامن مع نُموِّ تيَّار اليمين المتشدِّد في الغرب الداعم للاحتلال، زادت جرأة الاحتلال على تهجير الفلسطينيِّين ومصادرة بيوتهم وأراضيهم لصالح التوسع الاستيطاني. وبدأت بالونات الاختبار كلَّ حين وآخر بتعويم طرح الترانسفير من الضفَّة الغربيَّة إلى الأردن ومن غزَّة إلى مصر. ويتمُّ تغليف ذلك ضِمن سياق وهمي بأنَّه ضِمن عمليَّة «حلٍّ دائم» للقضيَّة الفلسطينيَّة. لا يعني الحلّ الدائم من وجهة نظر الاحتلال سوى إنهاء مسألة فلسطين تمامًا، حتَّى لو كان بقيَّة العالَم يرون أنَّ «حلَّ الدولتين» هو السبيل الأمثل لتحقيق السلام في المنطقة. فمَن يقوم بقتل الفلسطينيِّين يوميًّا وطردهم من أحيائهم وقراهم وبلداتهم وتدمير بيوتهم وحرق زرعهم لا يُعقل أن يكُونَ موافقًا على إقامة دَولة فلسطينيَّة حتَّى لو كانت كيان حكم ذاتي منزوع القوَّة الفعليَّة ومجرد سُلطة إداريَّة في ظل الاحتلال.

مع حرب المجازر والدمار الشامل على قِطاع غزَّة قبل أكثر من عام، تجدد الحديث عن الترانسفير أكثر من مرَّة، وفي كلِّ مرَّة كانت دول الجوار المعنيَّة تواجه تلك الدعوات بالرفض، وتحاول إقناع الداعمين للاحتلال، وفي مقدمتهم أميركا وبريطانيا، بالتمسك بحلِّ الدولتين، وأنَّ الترانسفير يقوِّض فرص مثل هذا الحل. ولأنَّ الترانسفير يكُونُ أسهل على الاحتلال في وقت الحرب فقد دفعت الفلسطينيِّين من شمال غزَّة إلى جنوبها ليتكدسوا على الحدود مع مصر. والحديث الآن في الإعلام الصهيوني عن «الاستفادة من تجربة حرب غزَّة في الحرب على الضفَّة الغربيَّة» قد يعني تجدُّد محاولات الترانسفير باتِّجاه الأردن. ومهما كان صمود الأردن ومصر في وجْه تلك الجريمة الَّتي يريد الاحتلال ارتكابها فإنَّ قادم الأيَّام يثير القلق بجديَّة. فإلى جانب وجود إدارة ترامب في السُّلطة في واشنطن ومزايدتها على إدارة جو بايدن السابقة في دعم الصهاينة ستزيد الضغوط على دول الجوار لتسهيل عمليَّات ترانسفير، حتَّى وإن لم تكُنْ شاملة. كما أنَّ استعداد بعض الموسرين لتمويل تلك العمليَّات في سياق «دعم حل نهائي للصراع» يجعل الضغوط غير محتملة أكثر. طبعًا يبقى في النهاية أنَّ مقاوَمة الشَّعب الفلسطيني لاقتلاعه من أرضه والقضاء تمامًا على كلِّ حقوقه المشروعة هي الأداة الأقوى في مواجهة استمرار طرح فكرة الترانسفير أو محاولة تنفيذها.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]