ذات صباح:
حين استيقظ حارب في ساعات الصباح الأولى كعادته كل يوم انتابه شعور غريب، أحس بمرارة غريبة بدأت بلسانه وانتقلت إلى جميع جسده، كما أن ثقل رأسه عطله من النهوض مباشرة، وضعه على الوسادة لمدة خمس دقائق إضافية.
حين لامس الماء توقع بأن تلك المرارة قد تقل حدتها غير أنها تفاقمت، وأصبح حتى طعم الماء الذي دخل جوفه مرًّا بصورة لم يجربها طوال سنوات حياته المنصرمة. حاول تجهيز الشاي؛ ليطرد تلك المرارة التي أصبحت مسيطرة عليه مترافقة مع شعور غريب يحس به لكنه يعجز عن شرحه أو الحديث عنه.
أشعل نار الموقد، حرك الحليب مع الماء، ووضع ورق الشاي في المزيج، ثم سكب ملاعق السكر وزاد ملعقة ليضفي على طعمه حلاوة، انتظر المزيج ليفور، حرك لسانه عدة مرات المرارة ما زالت موجودة، وطعم معدني غريب يجتاح كيانه، نظر إلى شجرة الليمون التي اجتاحتها مكنسة العجوز بلا رحمة، أحس بالموت البطيء يجتاح أطرافها، تذكر كمية الليمون التي كان يقطفها، ثم يجمعها في أكياس متباينة يوزعها على الجيران والأهل.
ركز في الحفرة الكبيرة الفارغة المجاورة لشجرة الليمون، كانت تقبع فيها شجرة من الأمبا التي كان ينتظر ثمارها كل قيظ، جفت بسرعة كبيرة، بكى حين شاهد الجفاف الذي اعتراها في أسبوع واحد، وبكى أكثر حين رأى أخشابها مركونة بجوار جدار بيتهم الخارجي.
قاطعه صوت انسكاب الشاي على الموقد، أفرغه في الدلة الصغيرة، تمنى اليوم لو يشرب فنجان قهوة، يحبها بالزعفران كما كانت تعدها زوجته، رحيلها تبعه رحيل شجيرات الياسمين التي زُرِعت في خط واحد، فقدها ففقد طعم القهوة والياسمين والشاي.
لم يتوقع أن يعيش بعدها إلا أنه ما زال يحيا ويتنفس، ويعد لنفسه شايًا كل صباح. وضع الشاي على صينية صغيرة، وأخرج كيس خبز الصمون، جلس في الحوش الفارغ إلا من الصمت. شرب كوب الشاي الأول أحس بطعم الحلاوة لبرهة قصيرة، ثم عادت المرارة بعدها بصورة مركزة، تمنى لو يسمع أي صوت ليحرك مشهد الجمود التي ظل عالقًا في ذاكرته لسنين طويلة.
تمنى في تلك اللحظات كما تمنى في لحظات كثيرة لو كان يملك ذرية تملأ عليه الدار سعادة وفرحًا، لو كان يستطيع التحدث، كما يتحدث جاره خصيف عن الذرية الكثيرة التي غمرت بيته ففاض بصراخهم وأصواتهم.
تنهد بحرارة، شعر بثقل جعله يستند على الحائط للحظات، حمل سكين التقطيع التي شحذها منذ الليلة الفائتة، وحمل كيسًا صغيرًا، ثم خرج إلى السوق.
في السوق:
رافقه الطعم المر إلى السوق، وضع السكين بجانبه وأدخل الكيس في جيبه، انتظر قدوم المشترين، بدأ بتقطيع الأسماك وتنظيفها، وفاحت من ملابسه القديمة رائحة الأسماك والدم، تعود عليها وانسجم معها، وامتلأت يديه بالخدوش والجروح حين تخطئ السكين طريقها، المرارة في فمه منعته من الحديث اليوم، اكتفى بأن وضع النقود القليلة في الكيس ثم في جيبه الواسع. تذكر اليوم حين مسح العرق عن جبهته صديقه حميد الذي رحل في صمت، ترك في ذلك اليوم مكانه وسلّم عليه، ونظر في عينيه لثوانٍ، ثم سمع برحيله، بكاه كما بكى زوجته موزة، وترك السوق لشهر كامل، واختار مكانًا بعيدًا عن المكان الذي كان يجمعه بحميد وأحاديثه. في طريقه تذكر أيضًا جارتهم أم زكريا والتي كانت تجهز له صحن غدائه، يجده مغطى بورق قصدير وموضوعًا على صينية صغيرة في صالة بيتهم، رحل زكريا ثم رحلت أم زكريا بعد شهر فقدت فيه رغبتها في الحياة.
مر على المطعم اليمني، تردد في الدخول شعر بتعب يغزوه بشراسة، ما زال الشعور المعدني الغريب ينتابه وسط الرائحة التي تنبعث من جسمه وثيابه القديمة. ترك المطعم، شعر برغبة في المشي في المشي فقط نحو بيته.
عند عتبة البيت:
شاهد حارب الحصير الصغير الذي كان يفرشه تحت الشريشة، تأمل شجيرات الريحان التي كان قد بدأت تزهر من جديد بأوراق خضراء صغيرة بعد أن أفقدها الصيف جمالها ورونقها، وقف يتأملها في صمت.
فتح الباب الذي أصدر صوتًا مزعجًا، ودخل في هدوء، اتجه نحو الصنبور الخارجي فتح الماء ليغتسل من كل ما علق به تمنى لو يدخل الماء في جوفه وينقي باطنه من الرواسب الكثيرة التي علقت به طوال السنين المتقادمة.
تحرك صوب الباب سمع صوت زوجته موزة، تمنى لو يجدها تجلس في قلب الصالة مع صينية صغيرة وصحن متوسط من الأرز والسمك لم يطبخ جيدًا غير أن ابتسامتها تحوله لطعام فاخر يسري في أوصاله، ويخفف عنه تلك الأحمال التي تثقل كاهله.
حين وضع حارب رأسه:
الثقل الكبير الذي أحس به حارب ازداد في هذه اللحظات، قرّب الوسادة من رأسه، حاول طرد فكرة المرارة التي تركزت في داخله في هذه اللحظات، أصبح الرؤية ضبابية لعله سمع صوت موزة أكثر من مرة، وشاهد صورة صديقه حميد لمرات، وحمل صحن جارتهم أم زكريا في لحظات كثيرة، تشابكت الصور في ذهن حارب، وازدادت الضبابية من حوله، أنفاسه المتقطعة، شهقاته الكثيرة لم يسمعها أحد، ملأت رائحة ياسمين من بعيد صورة المشهد من حوله، وأصبح الجمود هو المسيطر على المكان.
د. أمل المغيزويَّة
كاتبة عمانية