في ذلك اليوم الَّذي أعطيتُه هاتفي النقَّال لِيشاهدَ الرُّسوم المُتحرِّكة، كنتُ حينَها مشغولةً في التَّحضير لاستقبالِ ضيوفٍ بمنزلِنا، بعد خروج الضُّيوف فوجئتُ أنَّ صغيري قد نام دُونَ أن أحكيَ له قصَّة ما قَبل النَّوْم، فرحتُ كثيرًا لأنَّني وفَّرتُ وقتًا كنتُ أقضيه لأساعدَه على النَّوْم، وبعدها كنتُ أضعُ الهاتف بَيْنَ يدَيْه كُلَّما كنتُ مشغولةً لأصرفَه عنِّي، فانصرف عنِّي سنين وسنين، وضربتْ بَيْنَنا المسافات الَّتي تبعد الأرواح لا الأجساد. هي ليسَتْ مُشْكلتي وحدي، بل هي مُشْكلة غالبيَّة الأُمَّهات، بِتْنا في عالَم أصبح فيه التَّواصُل أسهلَ من أيِّ وقتٍ مضى، وتبدو العزلة الاجتماعيَّة كأحَد التَّحدِّيات الَّتي تُهدِّد العلاقة بَيْنَ الآباء والأبناء. مع أنَّ الغاية من استخدام وسائل التَّواصُل الاجتماعي زيادة التَّواصُل بَيْنَ الأقارب. فأبعدَتْنا تلك الوسائل عن أبنائنا بدلًا من أن تقرِّبَنا مِنْهم.
لكن مهلًا!!! فلنكُنْ مُنصِفِين، فالهواتف الذَّكيَّة وتطبيقاتها المختلفة سهَّلتِ التَّواصُل بَيْنَ النَّاس، فباتَ الأبوانِ على تواصلٍ مع ابنهما الَّذي يدرس في الخارج، يتتبَّعان خطواته، ويعرفان الأماكن الَّتي يذهب لها، ويشاهدانه بالاتِّصال عَبْرَ الفيديو فيطمئنان عَلَيْه، ويتحدثان معه باستمرار فتغيب عَنْه معاني الغربة، هُمَا معه في كُلِّ موقف فيطمئنان عَلَيْه قَبل دخول الامتحان وبعد الانتهاء مِنْه. لم يَعُدْ للقلق على الأبناء مكانٌ في قلوب الآباء. باتتِ الأُمُّ تطمئنُّ على صغيرها وهو في البَيْتِ مع الخادمة أو في السيَّارة مع السَّائق؛ بفضلِ الكاميرات الذَّكيَّة المربوطة بالهاتف النقَّال، حتَّى باتتْ ملاحظة الأبناء أمرًا سهلًا. فهي مصدر أمان واطمئنان للأبوينِ.
نَعم.. لِنكُنْ مُنصِفِين!! فالهواتف الذَّكيَّة سهَّلتِ المذاكرة والتَّعلُّم للصِّغار، فبها يتواصل الآباء ليتمكَّنوا من متابعة فروض أطفالهم الدراسيَّة، وبها يتواصلون مع المُعلِّمين ليتابعوا تربية أبنائهم ومشاكلهم التربويَّة، وبها يتعلَّم الصِّغار ما عجز الكبار عن تعلُّمه، أمَّا دروس التَّقويَّة فهي متاحة على منصَّات التَّواصُل الاجتماعيّ. وباتتِ الحصص الدراسيَّة متاحةً للطَّالب في أيِّ وقتٍ.
لكنَّها في الوقت نَفْسه أفقدتْ أفراد الأُسرة العلاقات مع بعضهم البعض، وأفقدتِ الأبناء القدرة على تحديد الأولويَّات في علاقاتهم الاجتماعيَّة، فلم تَعُدِ العلاقات مع الوالديْنِ، والإخوة هي على رأس قائمة اهتماماتهم، وباتتِ الأولويَّة في التَّواصُل مع أُناس غرباء، حتَّى باتَ الأبوان يَشعرانِ بالوحدة وهُمَا جالسان بَيْنَ أبنائهما، وباتَ الأبناء يَشعرون ببُعدِ آبائهم عَنْهم لأنَّ الآباء مشغولين بالتَّواصُل مع الآخرين من خلال هواتفهم النقَّالة. حتَّى باتَ الشُّعور بالوحدة يُخيِّم على البيوت، وباتتِ العزلة الاجتماعيَّة سلوكًا طبيعيًّا شائعًا بَيْنَ النَّاس.
نَعم.. لقَدْ فقَدَ أبناؤنا مُتعة التَّواصُل الاجتماعي، ففقَدُوا اللَّعب مع أبناء الجيران في الأحياء، تلك العلاقة الَّتي كانتْ تَدومُ طوال العمر حتَّى باتتْ كلمة ابن الجيران تعني أنَّه الأخ المقرَّب، فقَدَ أبناؤنا مُتعة اللَّهو مع الأصدقاء في مجموعات وشلل، فقَدُوا مُتعة الرِّحلات الجماعيَّة مع أبناء العائلة كأبناء العمِّ والعمَّة، أو الخال والخالة وامتداداتهم. ساعات كانوا يقضونها معًا في لهوٍ ومرحٍ فتعلُو ضحكاتهم، وأصواتهم المرحة، فتُهرول السَّعادة لقلوبِهم.
باتَ أبناؤنا ملازمين لمقاعدهم في المنزل، فاعتزلوا الرِّياضة، والحركة، واعتادوا العزلة الاجتماعيَّة، مع أنَّها ضدَّ الطَّبيعة البَشَريَّة، فقَدْ أشارتْ دراسات عديدة إلى أنَّ العزلة الاجتماعيَّة ترتبط بمُشْكلات نَفْسيَّة كثيرة لدَى الأطفال والشَّباب، مِثل القلق والاكتئاب، بالإضافة إلى تراجع مهارات التَّواصُل الاجتماعي لدَيْهم. كما أنَّ العزلة قد تؤدِّي إلى فقدان الدَّعم الاجتماعي، ومساندة الأقارب والأصدقاء لبعضهم البعض تلك المساندة الَّتي تُعَدُّ أساسًا للاستقرار النَّفْسي.
فكيف نُعيد أبناءنا لطبيعتهم الاجتماعيَّة، لِيعُودوا لأحضان آبائهم، ولِتجمُّع عائلتهم، ولِيعُودوا لتجمُّعات وشلل أبناء الجيران والأصدقاء، وأرَى أنَّ انخراط الأبناء في الأنشطة الرِّياضيَّة، لا سِيَّما الجماعيَّة مِنْها كلُعبة كُرَة القَدَم، أو الكُرَة الطَّائرة أو كُرَة السلَّة تساعد أبناءنا على الخروج من عزلتهم الاجتماعيَّة، وكذلك فإنَّ مشاركة الأبناء في الأنشطة التطوعيَّة لخدمة المُجتمع والنَّاس هي خير دواء لهم، فلعلَّهم يشفون من عزلتهم الاجتماعيَّة، ولنَا تجربة في فترة انتشار جائحة (كورونا) حيث كان الشَّباب يُشكِّلون فِرقًا تطوعيَّة لِيُقدِّموا المساعدة للمَرْضَى، والمحجورين، ولكُلِّ مَن يحتاج الدَّعم والمُساندة، فمَن ذاقَ لذَّة خدمة النَّاس، وتذوَّق نشوة الفرحة عِندما يساعد المحتاجين، سينبض قلبُه بالشَّوق لوصْلِ والدَيْهِ والقُرب مِنْهم. فالعمل التَّطوُّعي يُعزِّز العلاقات الأُسريَّة... ودُمْتُم أبناء قومي سالِمِين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
Najwa.janahi@