زمن الحرب الباردة، كانت مدرسة الواقعيَّة الاشتراكيَّة، الَّتي وضعت مقاييس ومعايير مسبقة للكتابة، فشاركتِ الثَّقافة بكُلِّ منتَجاتها وأجناسها بما فيها الكتابة السياسيَّة. وخلال الحرب الباردة إيَّاها في الصِّراع المفتوح بَيْنَ 1945 ـــ 1990، في تلك السَّنوات الطَّويلة بَيْنَ المعسكرَيْنِ الشَّرقي والغربي، منحتِ الثَّقافة، الَّتي تنتمي إلى فلك الاشتراكيَّة سِمات روَّجتها أنظمتها وعملتْ على تكريس الدِّعاية لها، في جملة من المزايا، مِنْها أنَّها قالتْ إنَّ الأدب الَّذي ينتمي إلى هذه المدرسة صاحب رسالة ومُهِمة جماهيريَّة، بخلاف الأدب الآخر الَّذي جرَّدته من هذه الصِّفة.
ولم يكُنْ هذا الموقف خارجًا عن محاولات توظيف الثَّقافة في النِّزاع بَيْنَ المعسكرَيْنِ زمن الحرب الباردة، والتَّعامل معها كسلاح حادٍّ، وهذا ما يفسِّر الوضعَ الصَّعب الَّذي خضعَ له عددٌ كبير من المثقَّفين في الكتلة الشَّرقيَّة؛ بسببِ عدم السَّير على هذا الخطِّ، الَّذي يَقُودُ في أحَد دروبه إلى «تدجين المثقَّفين»، والَّذي قابلَه من جهة الغرب ما يُعرف بـ»المكارثيَّة»، الَّتي نشأت في الولايات المُتَّحدة في النِّصف الأوَّل من الخمسينيَّات، وكانت عبارة عن تخويف ثقافي، يعتمد توجيه تُهم إلى الآلاف من المثقَّفين والفنَّانين، وحتَّى العُلماء (كما يجري الآن التَّرويج لِمَا يُسمِّيه الغرب بالإسلامفوبيا). ورغم أنَّ المكارثيَّة ألحقتْ ضررًا فادحًا بالثَّقافة والمثقَّفين في الغرب عمومًا، لكنَّ مكانةَ الثَّقافة لم تكُنْ تحت وصاية الدَّولة تمامًا، فصنع إرنست همنجواي وغيره إنجازات أدبيَّة في سجلِّ الثَّقافة العالَميَّة (مِثالنا الشَّيخ والبحر).
وأيضًا في الكتلة الشَّرقيَّة، إنَّ العقل المُبدع استطاع رغم كُلِّ شيء أن ينجزَ إبداعات كان مِنْها رواية ميخائيل شولوخوف (الدون الهادئ) الَّتي كانتِ العمل الأبرز خلْفَ منحِه جائزة نوبل للأدب سنَة 1965، ورواية (دكتور جيفاجو) لبوريس باسترناك الَّتي جلبتْ له وللاتِّحاد السوفييتي السَّابق أوَّل نوبل سنَة 1958. وصولًا إلى ألكسندر سولجنتسين الرِّوائي الرُّوسي زمن الاتِّحاد السوفييتي السَّابق، الَّذي كان يوسَم بالمُنشَق فحملَ نوبل الآداب أيضًا لعام 1970، والحال ذاته وصولًا إلى ميلان كونديرا.
وفي هذا المقام، وبحُكم الهَوَى السِّياسي الَّذي داعبَني في فتوَّتي ومُقتبل شبابي كانت تلك الرِّوايات الصَّادرة عن دار التَّقدُّم مصدرًا من مصادر إشادة ثقافتي، فبدأتْ بقراءة شولوخوف إلى والد الجندي، لكن من ميزة العقل المنفتح «فضيلة النَّقد الذَّاتي» والرُّؤية بعَيْنَيْنِ اثنتَيْنِ، والقراءة بموضوعيَّة تامَّة أو على الأقل عالية، وهو ما استقررتُ عَلَيْه بعد سنوات النُّضوج الحقيقي.
الأُمم لا تحيا بالخبز فقط، بل بمباهج العقل ومُتَع الرُّوح، لا تحيا إلَّا ولها نصيب عظيم في ميدان الثَّقافة وسُوق الأدب، وإلَّا فإنَّك واحدٌ من الأُمُم أُمَّة عسكريَّة أو زراعيَّة أو صناعيَّة، لكنَّها دُونَ أثَر أدبي وفنِّي مستمرٍّ عريض وعميق، ستكُونُ في الرُّتب التَّالية لا المُتقدِّمة. عَبْرَ التَّاريخ، كانت هناك صِلة وثيقة بَيْنَ الارتقاء في الإبداع الفكري والعطاء الأدبي، في وقت طغَتْ ثقافة «السوشيال ميديا» الخفيفة.
علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك