تتطلب إعادة صياغة وهندسة منظومة التَّشغيل لِتواكبَ المتغيِّرات والتَّحوُّلات الكبرى تقييمًا لأبعاد نطاق أدائها وصعيد نشاطها ثمَّ تحديث وتطوير ركائزها ومُكوِّناتها الأساسيَّة. وذلك لإيجاد قاعدة متينة ومَرِنة تمكِّن المنظومة من الأداء بفاعليَّة عاليَّة ومن تحقيق غاياتها.
ترتكز المنظومة على ركيزتَيْنِ أساسيتَيْنِ أولاهما المدخلات كالمهارات والخبرات، وثانيهما الأداء وتحقيق الغايات، ثمَّ المواءمة بَيْنَهما وتعظيم الاستفادة من عناصر الرَّكيزة الأُولى لتمكين أداء عالٍ وتحقيق الغايات المستهدفة للرَّكيزة الثَّانية. ويُمكِن اختصار مُكوِّنات وعناصر الرَّكيزة الأولى في: تطوير وإنماء المِهن كمظلَّة تجمع الجدارات والكفاءات والخبرات في مجالات مخصوصة. وعَلَيْه فإنَّ إعادة صياغة منظومة التَّشغيل يتطلب مراجعة المهن بشتَّى مجالاتها ومستوياتها وتطوُّراتها، ثمَّ تشكيل وإنماء مِهن المستقبل بما يواكب تطوُّر دَوْرَ الإنسان العامل وتغيُّر سِمات وقدرات الأجيال النَّاشئة ونَوعيَّة وخصائص العمل المهني مستقبلًا. لكُلِّ منظومةٍ مُكوِّنات ووحدات قياس؛ باتِّساقها وتفاعلها تَظهرُ فعاليَّة أدائها وجودة مخرجاتها. وتنطوي مُكوِّنات ووحدات قياس منظومة التَّشغيل تحت الرَّكيزتَيْنِ الأساسيتَيْنِ.
المِثال على المتغيِّرات هو التَّطوُّر المستمرُّ لمفهوم المِهنة، فقد كان مصطلح المهنة مرادفًا لمصطلح الحرفة في كثير من الأحوال، وإن كانتِ الحرفة أقرب إلى العمل اليدوي المهاري بَيْنَما المهنة قد تشمل مجالات عمل أوسع. كُلٌّ من الحرفة والمهنة تتطلبان اكتساب مهارات أغْلَبُها تطبيقيَّة في مجال حرفي أو مهني معيَّن ـ كالنِّجارة، والبناء، والزِّراعة، وصيد الأسماك، والتِّجارة ـ وفي أغْلَبِ الأحيان تلازم صاحبها مدَى حياته وتتوارثها الأجيال. وقد تحوَّلَ مفهوم المهنة إلى توصيف العمل التَّخصُّصي للعامل وبمجالات أوسع مما عرف سابقًا، وشمل أعمالًا معرفيَّة كالهندسة، والطِّب، والتَّدريس، وريادة الأعمال، وصناعة المحتوى الرَّقمي وغيرها الكثير وخصوصًا المِهن المستحدثة أو المطوَّرة من مِهن سابقة، وحيثُ إنَّ هذه المِهن توسَّعتْ مجالاتها وتنوَّعت تعاملاتها مع أفراد ومؤسَّسات فقد تعدَّدتْ مهارات أصحابها وكثير مِنْها خارج نطاق المجال التَّخصُّصي. مثالُ ذلك ما عُرف بالمهارات الشَّخصيَّة القياديَّة والسُّلوكيَّة. كما تكوَّنتْ مسارات مهنيَّة مُتعدِّدة صنِّفت خلال النِّصف الثَّاني من القرن العشرين في مسارَيْنِ رئيسَيْنِ هما المسار التَّخصُّصي والمسار العامُّ. وقد تطوَّرتْ في الألفيَّة الثَّالثة بفعل التَّقدُّم التِّقني والمهاري المعرفي إلى مسارات متعدِّدة ومتداخلة ذات دَوْرات زمنيَّة قصيرة، ممَّا أدَّى إلى انتفاء الارتباط المهني طويل المدَى للمختصِّين وقلَّ المُتخصِّصون المرجعيُّون. وأحَد أهمِّ التَّحوُّلات المهنيَّة كان من التَّخصُّصيَّة المحدودة والمتعمقة (الرَّأسيَّة) إلى التَّكامليَّة الواسعة المتضمِّنة مجالات مُتعدِّدة (الأفقيَّة). وكذلك الجمع بَيْنَ جدارات معرفيَّة متعدِّدة المجالات، وأخرى سُلوكيَّة، وغيرها أدائيَّة. هذا الجمع يُمكِن وصْفُه ووسْمُه بالجدارات الكميَّة أو المتكاملة مؤكدًا على التَّكامليَّة والتَّرابطيَّة بَيْنَ هذه الجدارات، والَّتي قد تبدو في الفَهْمِ السَّائد أنَّها متباينة ولا يجمعها قاسم مشترك.
استخدام مصطلح «الكميَّة» هو اقتباس من مصطلح فيزياء الكم (أو الفيزياء الكميَّة)؛ حيث التَّشابك والتَّرابط بَيْنَ مُكوِّنات عديدة حسب نُظم أكثر تعقيدًا وتفاعلًا. دعم وتوجيه التَّطوُّر المهني وإنماء الجدارات الكميَّة مُهمٌّ لتطوير مِهن المستقبل ببُعدَيْها: التَّقدُّم التِّقني وأثَره المباشر على العمل المِهني، وتطوير الجدارات السُّلوكيَّة والأدائيَّة للعاملين بالمعرفة خصوصًا.
نعلم جميعًا أنَّ اقتصاد المعرفة هو اقتصاد الحاضر والمستقبل، وهو اقتصاد مبني على المعرفة كمحرِّك رئيس ومدخل أساس في النَّشاط الاقتصادي والتَّنموي؛ باعتبار أنَّ المعرفة ذات قِيمة عالية وتأثير كبير. وعَلَيْه فإنَّ الأقدر والأكفأ هو مَن يمتلك المعرفة والمهارات المرتبطة بها والمسخّرة لها. واقتصاد المعرفة يحوِّل المعلومات والبيانات والمعارف لِقِيَم اقتصاديَّة وتطويريَّة ونفوذيَّة كبيرة، وذلك من خلال تطوير أدوات إنتاجيَّة وتنافسيَّة ذات قِيمة عالية وتأثير واسع. مثالُ ذلك إدارة العمليَّات الصناعيَّة لمنتجات صلبة (ملموسة) باستخدام الميكنة والحواسيب وتطوير منتجات ليِّنة كالمعاملات الرَّقميَّة، والأعمال التَّسويقيَّة، والأنشطة التَّرفيهيَّة، وغيرها. وباعتبار أنَّ اقتصاد المعرفة هو اقتصاد الحاضر والمستقبل فإنَّ العاملين بالمعرفة هم مهنيُّو الحاضر والمستقبل.
التَّقدُّم التِّقني من جهة وتغيُّر سِمات وقدرات العاملين من جهة أخرى أوجدا تغيُّرات مُهمَّة في المِهن ومجالاتها وطرائق إنمائها وسرعة تجدُّدها واستبدالها. ترتبط مهن المستقبل ارتباطًا وثيقًا بالمعرفة وبالعاملين بالمعرفة. العاملون بالمعرفة هم أولئك الَّذين يطوِّعون المعارف والتقنيَّات لإيجاد منتجات وخدمات متفرِّدة ومتميِّزة ذات قِيَم عالية ومردود اقتصادي كبير. العمل بالمعرفة يشمل تطويع وإدارة الآلات والحواسيب والآلي (الروبوتات) لإنجاز الأعمال اليدويَّة والأعمال ذات الرَّتابة العالية. يسخّر العامل بالمعرفة جلَّ جهده الذِّهني المُميِّز له عن غيره في الابتكار والتَّحسين والتَّجويد. يُعَدُّ الأطباء والمهندسون والمدرسون والمبرمجون وحتَّى الإداريون ـ بالمصطلح السَّائد ـ هم عاملون بالمعرفة. العامل بالمعرفة هو الَّذي يستخدم المعرفة والخبرة والتقنيَّات كمدخلات ينتج عَنْها منتجات وخدمات تتمايز عن بعضها وحسب رغبات وحاجات وسِمات المستفيدين. فمثلًا تشخيص الطَّبيب لكُلِّ حالة مرضيَّة يختلف ولو اختلافًا بسيطًا عن غيرها، وكذلك تصميم المعماري للمنشآت وتطوير المهندس حلولًا ومنجزات. باعتبار أنَّ الحِرفي يضيف لكُلِّ منتج بصمةً خاصَّة تميِّزه عن غيره فهو أقرب إلى كونه عاملًا بالمعرفة مِنْه عن عامل منفِّذ أعمالًا رتيبة ومتكررة. التَّمايز والتَّباين هو ما يُميِّز الثَّورات الصِّناعيَّة الأخيرة عمَّا أفرزته الثَّورة الصِّناعيَّة الأولى.
هذا التَّحوُّل في الأعمال إلى العمل بالمعرفة وإلى الإنتاج المتمايز، سواء للمنتجات الصلبة أو الليِّنة أو للخدمات المناسبة لكُلِّ حالة ولكُلِّ مستفيد يحتِّم إحداث تغيير جذري في طرائق العمل وفي أساليب الإدارة والتَّعامل بَيْنَ المشغِّل، والمشتغل، والمستفيد، والمُنظِّم. فلكُلِّ مُهِمَّة خصوصيَّات ومتطلبات ومدخلات قد تختلف عن غيرها، بالإضافة إلى الدَّوْر المحوري للعامل بالمعرفة مقارنةً بِدَوْر الآلة المُنفِّذة للعمل والمنجزة للخدمة. وفي هذا ترقية لِدَوْر الإنسان العامل وقدرته على تسخير الآلة لِتَقومَ بالأعمال الرَّتيبة واليدويَّة. وبهذا ينتفي القلق من منافسة الآلة له والخوف من فقدان البَشَر وظائفهم وأعمالهم باستبدالهم بالآلي أو بالآلات. لذلك لا بُدَّ من إعادة صياغة أدوار الإنسان في العمليَّات الإنتاجيَّة والخدميَّة وتأهيله لتسخير الآلة والتقنيَّات في إنجاز الأعمال اليدويَّة والمملة، بَيْنَما يشتغل بأعمال تطويريَّة وابتكاريَّة متجدِّدة. تأكيد وتفعيل مفهوم العاملين بالمعرفة سيقدِّم الحلَّ لهذا الإشكال وسيدفع للاستفادة من معطيات التَّقدُّم التِّقني والتَّطوُّر في أساليب العمل ومنهجيَّات تطوير العمل الجمعي المؤسَّسي.
وحيثُ إنَّ الكثير من الأعمال ما زالتْ تتطلب العمل اليدوي المهاري وكثير من الأعمال لدى المؤسَّسات العاملة تعتمد على نُظم العمل القائمة على شغل وظائف ثابتة بأعمال متكررة، فإنَّه لا بُدَّ من وضع خطَّة تحوُّل لا تربك الأعمال القائمة بَيْنَما تدفع بالتَّحوُّل المأمول بتدرج وتقدُّم مستدام. ولتحقيقِ ذلك فإنَّ على الجهات المختصَّة والمسؤولة إنشاء قاعدة بيانات بالأعمال والمهمَّات والأدوار وبما يتلاءم مع توصيف العمل بالمعرفة وتحديد تلك الَّتي تتطلب تغيُّرات جذريَّة في طرائق التَّنفيذ والإنجاز. قاعدة البيانات تتطلب إعداد أوصاف موجزة لخصائص ومتطلبات ومستهدفات تلك الأعمال (شبيهة بالوصف الوظيفي حاليًّا). وبعد ذلك تحدّد جوانب التَّحسين والتَّجويد وأساليب العمل ومنهجيَّاته المناسبة وإعداد برامج تأهيل شاملة متاحة للجميع تهدف إلى اكتساب أكبر شريحة من العاملين المهارات اللازمة وتطوير قدراتهم. فكثير من الأعمال اليدويَّة اليوم ـ والَّتي لا تتناسب مع مفهوم العمل بالمعرفة ـ يُمكِن تغييرها واستبدالها بمهمَّات وأعمال بالمعرفة. ومن ذلك التَّحوُّل إلى الميكنة والأتمتة في الأعمال الإنشائيَّة والزِّراعيَّة والأعمال اليدويَّة وتأهيل العامل لإدارة وتشغيل المعدَّات والمكائن، والآلات، والآليين، والحواسيب. وباعتبار الوضع الديمغرافي في عُمان وفي دوَل الخليج؛ فإنَّ في هذا التَّحوُّل يكمن حلٌّ مُهمٌّ وفعَّال لمعالجة تحدِّيات تشغيل المواطن وجعله مؤثِّرًا وفاعلًا في التَّنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المستدامة. وسيُمكِّن التَّقليل من الحاجة إلى العمالة الوافدة غير الماهرة وبالتَّالي يعالج تحدِّيات اجتماعيَّة وسياسيَّة متعاظمة لعدم توازن الوضع الديمغرافي. وحيثُ إنَّ العمل بالمعرفة أكثر كفاءة وأعلى إنتاجيَّة وجودة؛ فإنَّ استبدال العمالة متدنِّية المهارة والتَّكلفة سيكُونُ أكثر ملاءمة للتَّحوُّلات التقنيَّة الكبرى وسينتج عَنْه مردود اقتصادي وتطويري وحضاري أعلى وأكثر استدامة.
د. سلطان بن سعيد الشيذاني
مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان
ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية