الخميس 30 يناير 2025 م - 30 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

بناء عُمان أكثر صحة: معركة فـي مواجهة الأمراض غير المعدية!

بناء عُمان أكثر صحة: معركة فـي مواجهة الأمراض غير المعدية!
الاثنين - 27 يناير 2025 02:32 م

د. يوسف بن علي الملَّا

20


يعي الجميع بأنَّ جوهر المُجتمع المزدهر يكمن في صحَّة أفراده. وفي حين يتمُّ خوض بعض المعارك الصحيَّة بشكل واضح، فإنَّ بعضها الآخر يظلُّ في صمتٍ، ويُشكِّل الحياة بهدوء مقلق. ومن بَيْنِ هذه الصِّراعات الخفيَّة الأمراض غير المُعْدِية، والَّتي هي حالات مزمنة قد لا نسلِّط الضَّوء عَلَيْها دائمًا ولكنَّها تؤثِّر بشكلٍ عميق على الأفراد والأُسر والمُجتمعات. وإدراكًا لأهميَّة هذه القضيَّة، شرعتْ سلطنة عُمان في رحلةٍ هائلة مع إطلاق المسح الوطني للأمراض غير المُعْدِية. هذه المبادرة، الَّتي تَقُودُها وزارة الصحَّة العُمانيَّة بالتَّعاون مع منظَّمة الصحَّة العالَميَّة، هي أكثر من مجرَّد مشروع، إنَّها ـ بلا شك ـ خطوة نَحْوَ إحداث تحوُّل في الرِّعاية الصحيَّة في سلطنة عُمان.

بطبيعة الحال، في السَّلطنة ارتفع معدَّل انتشار الأمراض غير المُعْدِية مِثل السكَّري وأمراض القلب والسَّرطان وأمراض الجهاز التَّنفُّسي المزمنة بشكلٍ مُطَّرد. ورغم أنَّ هذه الحالات يُمكِن الوقاية مِنْها وإدارتها، فإنَّها تظلُّ في كثير من الأحيان غير مكتشفة حتَّى تظهرَ على شكل أزمات صحيَّة حادَّة. حيث كشف تقرير صادر عن الاتِّحاد الدّولي للسكَّري عام ٢٠٢٣ أنَّ ما يقرب من سبعة عشر بالمئة من البالغين العُمانيِّين مُصابون بمرض السكَّري، في حين لا تزال أمراض القلب أحَد الأسباب الرَّئيسة للوفاة في البلاد!

ولْنَأخذْ هنا ـ على سبيل المثال ـ إحدى المريضات، وهي أُمٌّ تبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا توفق بَيْنَ وظيفتها ومسؤوليَّاتها العائليَّة يوميًّا. وتجاهلت لسنواتٍ أعراض التَّعب والصّداع المتكرِّر، وأرجعتها ـ سبحان الله ـ إلى حياتها المزدحمة. لم تطلب الرِّعاية الطبيَّة إلَّا بعد أن أظهر الفحص الصحِّي في مكان العمل ارتفاع ضغط الدَّم لدَيْها. وبعد تشخيص إصابتها بارتفاع ضغط الدَّم، أدركتْ تلك المريضة أهميَّة الكشف المبكر، وأهميَّة الانتباه إلى هذه الأعراض! وحقيقة الأمر، فقصَّة هذه المريضة ليسَتْ غير شائعة. ففي جميع أنحاء السَّلطنة، يعيش عددٌ لا يُحصى من الأفراد دُونَ عِلمهم في ظروف يُمكِن إدارتها ـ أو حتَّى الوقاية مِنْها ـ من خلال التَّدخُّل في الوقت المناسب. لذلك ومن هنا، يسعَى المسح الوطني للأمراض غير المُعْدِية إلى معالجة هذه التَّهديدات الصَّامتة من خلال تحديد الأنماط وتكوين صورة شاملة عن صحَّة أبناء هذا الوطن، ومَن يعيش على ترابه.

وبالتَّالي يُمثِّل المسح في جوهره دعوة وطنيَّة للعمل والتَّعاون، من أجْلِ جمع بيانات دقيقة حَوْلَ انتشار وعوامل الخطر للأمراض غير المُعْدِية في جميع أنحاء السَّلطنة، ممَّا يتيح التَّدخُّلات المستهدفة وتخصيص الموارد بشكلٍ أفضل. من ناحية أخرى، وإلى جانب جمع البيانات، فهذه المبادرة تعكس رؤية أوسع من ذلك ـ وإن صحَّ لي القول ـ رؤية تتوافق مع رؤية «عُمان ٢٠٤٠»، والَّتي تضع الصحَّة باعتبارها حجر الزَّاوية في التَّنمية المستدامة.

بل وإنَّه من خلال هذا المسح الوطني، سيكتسب صنَّاع السِّياسات الصحيَّة نظرة ثاقبة حَوْلَ خيارات نمط الحياة والعوامل البيئيَّة الَّتي تؤدِّي إلى ظهور الأمراض غير السَّارية. كيف لا؟ ومن خلال تسلُّحهم بهذه المعرفة، يُمكِنهم تصميم برامج وقائيَّة مُصمَّمة خصيصًا لِتناسبَ المشهد الثَّقافي والديموغرافي الفريد في سلطنة عُمان. وقد تركِّز هذه البرامج على تعزيز النُّظُم الغذائيَّة الصحيَّة، أو زيادة النّشاط البَدني، أو الحدِّ من التَّدخين، وهي إجراءات يُمكِن أن تُقلِّلَ بشكلٍ كبير من عبء الأمراض غير المُعْدِية.

ولعلَّ أحَد أبرز جوانب هذه المبادرة هو تركيزها على المشاركة المُجتمعيَّة، حيث ذكَر معالي الدكتور هلال بن علي السَّبتي، وزير الصحَّة بقوله: (إنَّ بناء مُجتمع أكثر صحَّة ليس مُهِمَّة مؤسَّسة واحدة). لذلك ـ وبلا شك ـ فهو يتطلب جهدًا جماعيًّا من الأفراد والأُسر والمدارس وأماكن العمل. وهنا ينطبق هذا الشُّعور على أحَد المُعلِّمين الأفاضل، اكتشف أنَّه مُصاب بمرض السكَّري أثناء فحص طبِّي روتيني. وبدلًا من الاستسلام للخوف، استخدم هذه الفرصة لتغيير نمط حياته. فبدأ المشي مع أطفاله كُلَّ مساء، واستبدل الوجبات الخفيفة السكريَّة بالفواكه، وشجَّع طلابه على المشاركة في تحدِّيات اللياقة البدنيَّة. وعَلَيْه فالصحَّة فعلًا لا تتعلق فقط بالأطبَّاء والمستشفيات، بل تتعلق بالخيارات الَّتي نتَّخذها كُلَّ يوم!

ولكَيْ أكُونَ واضحًا، فإنَّ هذا المسح والاستطلاع يتعلق أيضًا بالتَّمكين بقدر ما يتعلَّق بالبيانات. فمن خلال إشراك المواطنِين من كُلِّ محافظة، معززًا بذلك الوعي ومشجِّعًا للتَّدابير الصحيَّة الاستباقيَّة، حيث أشارتِ الدِّراسات إلى أنَّ البرامج الصحيَّة الَّتي يَقُودُها المُجتمع، مِثل تلك المُخطَّط لها كمتابعة لهذا المسح، والَّتي يُمكِن أن تقلِّلَ من الإصابة بالأمراض المُزمنة بنسبة تصل إلى ثلاثين في المئة على مدى عَقد من الزَّمن... أوَلَيْس ذلك مُلهمًا؟!

من هنا أستطيع القول، بأنَّ هذا المسح الوطني للأمراض غير المُعْدِية يُعَدُّ بمثابة شهادة على التزام سلطنة عُمان حكومةً وقيادةً على صحَّة مواطنيه. بل إنَّه يعكس إيمان أبناء الوطن بأنَّ الصحَّة ليسَتْ مجرَّد غياب المرض، بل هي حالة من السَّلامة الجسديَّة والنَّفْسيَّة والاجتماعيَّة الكاملة. ومن خلال هذه المبادرة، لا تتصدَّى سلطنة عُمان للتَّحدِّيات القائمة فحسب، بل إنَّها تعمل على بناء الأساس لمستقبل أكثر صحَّة وحيويَّة ـ بإذن الله ـ. والصَّحيح إنَّ تلك المريضة وذلك المُعلِّم، وعدد لا يُحْصَى من الآخرين هم دليل على أنَّ التَّغيير ممكن عِندَما يجتمع الأفراد والمُجتمعات والمؤسَّسات. فتذكِّرنا قصصهم بأنَّ وراء كُلِّ إحصائيَّة تكمن رحلة إنسانيَّة، رحلة نضال ومرونة وأمل. وبَيْنَما تمضي سلطنة عُمان ومؤسَّساتها الصحيَّة قُدمًا في هذه المبادرة التَّحويليَّة، فإنَّها تبعث برسالة مُهمَّة ألَا وهي: أنَّه لا ينبغي لأحَد أن يواجِهَ تحدِّياته الصحيَّة بمفرده!

ختامًا، ومع انطلاق المسح، أدعو كُلَّ مواطن للمشاركة والمساهمة في هذه المُهمَّة الوطنيَّة، سواء من خلال استكمال الاستبانة، أو تَبنِّي عادات صحيَّة، أو تشجيع الآخرين على فعل الشَّيء نَفْسه، فكُلُّ إجراء له أهميَّة. ومعًا، يُمكِننا أن نحوِّلَ دفَّة الأمراض غير المُعْدِية ونخلقَ إرثًا من الصحَّة للأجيال القادمة. وبكُلِّ تأكيد فالمسح الوطني للأمراض غير المُعْدِية ليس مجرَّد مشروع، بل هو وعدٌ لتلك المريضة وذلك المُعلِّم وكُلّ أُسرة عُمانيَّة أو مُقِيمة على هذه الأرض الطيِّبة، وإعلان بأنَّ الصحَّة هي انتصار مشترك، وأنَّنا معًا نستطيع أن نبنيَ مستقبلًا تُتاح فيه الفرصة للجميع لِيكُونَ بخير وفي صحَّة.

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]