الخميس 23 يناير 2025 م - 23 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

البنية والتركيب فـي آية الإسراء«دراسة بلاغية تربوية» «2»

الأربعاء - 22 يناير 2025 04:07 م

وقوله:(الحرام) فهو مصدر على وزن (الفَعَال) بفتح الفاء، والعين، أي: المحرم، والتعبير بالحرام تعني: منتهى الحرمة، وقمة القدسية، كما في قوله تعالى:(.. عند بيتك المحرّم)، فالحرام بمعنى (المحرَّم)، والمقدس والمعظم، والمحمي من الله، والذي يريد فيه من البشر أيَّ إلحاد فإن الله يذيقه من العذاب الأليم، ونيران الجحيم، قال تعالى:(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)(الحج ـ ٢٥).

قال هنا بعض أهل العلم:(مَنْ هَمَّ أن يعمل سيئة في مكة أذاقه اللهُ العذاب الأليم؛ بسبب همِّه بذلك، وإن لم يفعلها، بخلاف غيرِ الحرم المكي من البقاع، فلا يعاقب فيه بالهَمِّ)، وعن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:(لو أن رجلا أراد بإلحاد فيه بظلم، وهو بِعَدَنٍ أَبْيَن(اليمن) لأذاقه الله من العذاب الأليم)، وهذا ثابتٌ عن ابن مسعود، ووقفُه عليه أصحُّ من رفعه، والذين قالوا هذا القول استدلوا له بظاهر قوله تعالى:(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)؛ لأنه تعالى رتَّب إذاقة العذاب الأليم على إرادة الإلحاد بالظلم فيه، ترتيب الجزاء على شرطه، ويؤيد هذا قولُ بعض أهل العلم: إن الباء في قوله (بإلحاد) ـ لأجل أن الإرادة مضمنة ـ معنى الهَمِّ ، أي: ومن يهم فيه بإلحاد، وعلى هذا الذي قاله ابن مسعود، وغيره؛ وذلك لمكانة البيت الحرام، وخصائص مكة المكرمة.

وقوله:(الأقصى) هو أفعل تفضيل معرف بأل؛ لكونه يبعد كثيرا عن الحرم المكي، والحرم المدني، والحروف تبين مدى صعوبة الوصول إليه، ومدى الجهد، والتعب من زيارته حيث الهمزة الحنجرية، والقاف المفخمة، المقلقلة، والصاد المفخمة، ذات الصفير العالي، والألف المقصورة، وكأنك تصعد جبالًا، وتلالًا، وهضابًا، تتجشم عناء الصعود، والسير، حتى يجف حلقك، ويتعدد اضطرابك، ويضيق نفسك، وتكاد تهلك منك نفسك.

وقوله:(الذي) هو صفة لـ(للأقصى) الذي هو صفة للمسجد، وتعدد الصفات يبين جلال الموصوف، ومكانته، والفعل (باركنا) بوزن (فاعلنا) يبين حجم البركة، واتساعها، وتعدد أنواعها، و(نا) ضمير الواحد المعظم نفسه، هي الفاعل، فالله هو الذي باركها بجلاله، وسعة نعمائه، وكمال عطائه، والألف في:(باركنا) زادت البركة بركات، فهي ألف المفاعلة، ونون العظمة هنا مما زاد جمالها، وجلالها، والظرف (حوله)، كأنه كناية عن نسبة، فإذا كانت البركة حوله، فكيف تكون بركته هو، كما تقول:(يمشي الكرم في ثوبيه، وإهابه) أي: أنه أكرم، وأكرم، فالبركة فيه أضعاف بركة ما حوله، والناظر حقا حول المسجد الأقصى يجد معنى البركة حاصلًا في كل شيء، في الأشجار، والخضرة، والتجارة، والزراعة، وما ينشأ حولهما من صناعة، والظرف(حوله) يبين اتساع حدود البركة، وكبر وعظمة قدر الفضل.

ويأتي التعليل بلامه الحانية:(لِنُرِيَهُ)، والفعل:(نُرِي) بضم النون، هو فعل مضارع، ماضيه رباعي (أرى)، وأصله:(أرأى)، حُذِفَتْ همزته؛ لكثرة الاستعمال، و(أرى) فعل رباعي، ثلاثيُّه الفعل(رأى)، و(أرى) الرباعي يعني أن اللهتعالى قد عَدَّى أثر قدرته في الإراءة إلى رسوله الكريم، فصار يرى بقدرة الله، ففيها تعدية لأثر إراءته إلى حبيبه، فالرحلة كلها تسرية، واحتفاء بشخصه الشريف، فالهمزة همزة الإقدار، والإعطاء، كما كانت في الفعل:(أسرى).

و(من) في قوله:(من آياتنا)، جاءت للتبعيض، أي لنريه بعض آياتنا، والمضاف إليه (نا) جاء للتعظيم، والتشريف، فهي آيات الله الدالة على عظمته، وقدسيته، وجلاله، ومكانة رسوله، وهي في الوقت نفسه تدل على خطورة ما أراه من آياته، وعلى دلائل قدرته، وعلمه بكل مراحل عمر كونه الرحيب، و(الآيات) جمع الآية، وهي تفيد كثرة ما رآه في رحلتيْه: (الإسراء)و(المعراج)، وما ورد فيهما من إعجاز، وعظمة ربانية، ومرائي الإسراء تَشِي بذلك، فقد رأى من آيات ربه الكبرى، وعرفه الله على كل أحداث الحياة، وأعبائها، وفسرها جبريل ـ عليه السلام ـ له، ونزل من السماء بعد أن عرضت عليه أحداث الأرض إلى يوم العرض، فكانت رحلة غاية في التوفيق، ونال فيها فرض الصلاة، وعرف قدرها.

وقوله:(إنه): (إن) حرف توكيد يؤكد على عظمة الحادثة، ووجوب التصديق بها، وبأحداثها، والهاء في (إنه) كناية عن موصوف هو الله عز وجل، ثم يأتي ضمير الفصل:(هو) ليؤكد أنها بجميع ما فيها من فعل الله، لا من فعل البشر، والصفتان المشبهتان:(السميع، البصير) تدلان على عناية الله بكونه، وبرسوله، وأنه ـ سبحانه ـ سميعٌ بكل ما يدور في كل أرضه، وسماواته، بصيرٌ بكل خطرة تحدث في الأرض، والسماء، وفيها كناية عن تطمين قلب الرسول الكريم، وأنه مؤيَّد من ربه، ومرئي منه، ومسموع له، فليمضِ بلا قلق، ولا خوف، ولا وجل، ولا تردد، ولا يلوي على شيء، لأنه بين يديْ ربه (والله يعصمك من الناس)، وهو أمر يدفع إلى العمل بكل جدية، دونما خوف، أو وجل، فهو محفوظ بحفظ الله، كما قالها الله لموسى، وأخيه هارونَ ـ عليهما السلام ـ عندما أرسلهما الله إلى فرعون، فقالا:(ربَّنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى)، فردَّ رب العزة قائلًا:(قال لا تخافا، إنني معكما أسمع، وأرى)، فسارا في دعوتهما وعند فرعون بكل اطمئنان، ورباطة جأش، واستقرار فؤاد، وسعادة قلب، وثباتِ خُطًا.

وهكذا كان الرسول في رحلتيِ (الإسراء)، و(المعراج) التي رأى فيها أهوالَ الحياة، ومتاعبها، وما سيكون في الكون الله من مكر، وتبييت هنا، ودنيا، وشهوات هناك، وابتلاءات، واختبارات هنالك، وقد فسَّرها للرسول سيدُنا جبريلُ ـ عليه السلام ـ في كل مرة يقول له فيها:(ما هذا يا أخي يا جبريل؟)، فيفسر له رمزية المرئية، حتى فهم جميع الآيات، والمرائي، التي سنعالجها، ونوضحها في لقاءات قادمة بإذن الله.

والصفتان المشبهتان:(السميع، البصير) تدلان على الصفة، ومَنْ قام بهما على سبيل الثبوت، والدوام، كشأن الصفات المشبهة، ودلالتها الأزلية المتواصلة.

وعليه، فإن تربويات الآية تعني لنا ـ نحن المؤمنين بالله وكتابه، وبكل ما تفضل به سبحانه في كونه ـ الكثير، أولًا: التعجب من آية الإسراء، وكل ما أكرمنا الله به من خوارق العادات، وجليل المهمات، وثانيًا: أنه القادر على فعل كل ما يصلح كونه، ويؤيد أنبياءه، وثالثًا: أن مقام العبودية هو أعظم مقام، وأجل منزلة يوصف بها العبد الخاشع لأمر ربه، ورابعًا: أن حياة المؤمن إنما هي حياة طاهرة، تتنقل بين مسجد، ومسجد، وطهر، وطهر، وخامسًا: أن وراثة المسجدين هي لنا نحن المسلمين، لا لغيرنا، وسادسًا: أن الله وحده القادر على صنع المعجزات، وفعل الآيات، وسابعًا: أنه بكل تأكيد سميع، وبصير ، وأن ذلك منه على طول الحياة، ومراحل الكون كله، فلْيِسْعَ كل داعية، وليمضِ في دعوته مطمئنا، هادئا، وعلى بصيرة، وهدى، واستقرار قلب، وهدوء فؤاد، ويستصحب معه في رحلة حياته الدعوية أن الله معه سميعٌ، وبصيرٌ بكل ما يحدث في كونه، وقديرٌ على نصرة أوليائه، والفتح لأهله، وأصفيائه، وأنه هذا هو شعور المؤمن المتواصل، ويقينه بربه الكبير المتعالي، وأن العقيدة الصحيحة تدفع إلى خير العمل، وعمل الخير.

وقد رأينا كذلك كيف تعانقَ اللفظُ، والتركيبُ، وكيف تداخل الصرفُ، والنحوُ في الكشف عن جلال حادثة الإسراء، وعن طهرها، ونبل مقاصدها، وسمو دلالاتها، وكيف تداخلتِ البنيةُ مع التركيب، ونضحَا معًا هذا الكمال في المعاني، وذلك الجلال للمقاصد، والأهداف، وكيف أدَّيا معا متناغمين هذا الدور المنوط بهما في الكشف عن مراد الآية الكريمة، وظلِّها، واتساع ما وراءها من معان غزار، وأهداف كثار، وقيم وروحانيات كبار.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]