الجمعة 31 يناير 2025 م - 1 شعبان 1446 هـ
أخبار عاجلة

السلفية الأميركية

الأربعاء - 22 يناير 2025 02:44 م

د.أحمد مصطفى أحمد

20


لم يأتِ تنصيب الرَّئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب يوم الاثنين بجديد سوى الاستعراض الإعلاني بكُلِّ ما هو معروف ومتوقَّع من قَبل. حتَّى الميزة الأميركيَّة التَّقليديَّة في «الإبهار» بالاستعراض لم تكُنْ مميَّزة في حفل التَّنصيب ومراسم تسليم وتسلُّم البَيْت الأبيض. رُبَّما زادَ في هذا الحفل ما سمعناه من كلمات سبقَتْ كلمة التَّنصيب للرَّئيس عَبَّرَتْ بشكلٍ واضح عن القاعدة الصُّلبة لتأييدِ ترامب بَيْنَ الأميركيِّين بمسحتها الإيفانجليكانيَّة. وهذا الفصيل وإن بدا مختلفًا عن التيَّارات المُتطرِّفة إلَّا أنَّه في الواقع أشدُّ أُصوليَّة مِنْها. هذه الطَّائفة من المسيحيَّة في الولايات المُتَّحدة تكاد ألَّا تكُونَ مسيحيَّة كما نعرفها في الشَّرق، ولا حتَّى في بقيَّة الغرب. فَهُم أقرب للصَّهاينة تطرُّفًا، بل إنَّهم في سلوكيَّاتهم يُجيزون ما تنفر مِنْه كُلُّ الأديان وحتَّى القِيَم الإنسانيَّة الأساسيَّة. ويُغازل ترامب وفريقه هذا التيَّار السَّلفي الأميركي منذُ منتصف العقد الماضي حين ترشَّح للرِّئاسة الأُولى، ليس لمشاركتهم أفكارهم ولكن لأنَّهم يتَّسقون مع دعوات العنصريَّة لبقيَّة التيَّارات المؤيِّدة له من المُغالين في الوطنيَّة إلى حدِّ العنصريَّة الفجَّة.

إلى جانب هذه المسحة السَّلفيَّة الواضحة، كان حضور مليارديرات التكنولوجيا واضحًا وإن لم يكُنْ غير متوقَّع في ضوء ما شهدناه منذُ الحملة الانتخابيَّة قَبل فوز ترامب العام الماضي. وما هؤلاء في مجال الأعمال بمختلفين كثيرًا عن المُتطرِّفين الإيفانجليكال في المُجتمع. فتَوَجُّه هؤلاء وسُلوكهم لا علاقة له بالدِّين، أي دِين، إنَّما هي الانتهازيَّة المصلحيَّة لمن بنوا ثروات هائلة أغْلَبها عبارة عن أرقام بأصفار كثيرة في البنوك لكنَّها لا تنتج شيئًا حقيقيًّا ملموسًا إلَّا قليلًا. وكُلُّ هذا يخدم توَجُّه ترامب وطريقته، ليس كرئيس لأكبر وأقوى دَولة في العالَم ولكن منذُ كان سمسار عقارات ثمَّ نجم برنامج تلفزيوني (بزنس الاستعراض) بعد ذلك. أمَّا خِطاب التَّنصيب فقَدْ كرَّر فيه ترامب ما يُردِّده منذُ حمْلتِه الانتخابيَّة، وكُلُّها وعود تخلق «شعورًا بالتَّحسُّن الهائل» لدَى أغلبيَّة المواطنِين والنَّاخبِينَ الأميركيِّين. فهو سيخلِّص البلاد من المهاجرين وسيقطع صلة أميركا بترتيبات دوليَّة للمناخ والصحَّة وغيرها يرَى كثير من الأميركيِّين أنَّها تحدُّ من طموحهم لتحقيقِ «الحلم الأميركي» – الَّذي أصبح كابوسًا لأغلب الأميركيِّين مؤخرًا.

هذا التَّركيز على الدَّاخل لا يعني أنَّ إدارةَ ترامب الجديدة تنسحب تمامًا من العالَم، بل إنَّ توَجُّهَ «الأولويَّة لأميركا» هو وراء العقوبات المتوقَّعة من واشنطن على تجارة العالَم كُلِّه معها وليس فقط الصين والمكسيك وكندا. كما أنَّ تصريحات الرَّئيس قَبل توَلِّيه منصبه عن «التَّوسُّع الاستيطاني» على طريقة الاحتلال في فلسطين بضمِّ كندا واحتلال بنما والاستيلاء على جرينلاند يأتي في ذلك السِّياق. حتَّى وإنْ بدا كُلُّ ذلك «تعاملًا وانخراطًا» مع العالَم، إلَّا أنَّه يستهدف في النِّهاية مصلحة أميركا، وأميركا فقط، بشكلٍ يتعارض مع ما أصبح عَلَيْه العالَم من تشابُك مصالح وعَوْلَمة اقتصاديَّة وسياسيَّة. رغم تشكيك البعض في قدرة إدارة ترامب على تنفيذ كُلِّ ما وعد به الرَّئيس، من باب «التَّفكير بالتَّمنِّي» رُبَّما خشية الضَّرر المتوقَّع، إلَّا أنِّي أتصوَر أنَّ الإدارة الأميركيَّة الجديدة ماضية في تنفيذ تلك الوعود. أوَّلًا لأنَّ هناك قاعدة واسعة من السَّلفيَّة الأميركيَّة وتيَّارات التَّطرُّف والعنصريَّة تؤيِّدها وترَى أنَّها في مصلحة الولايات المُتَّحدة. وثانيًا لأنَّ العالَم حاليًّا أضعَفُ من أن يقفَ في وَجْهِ أيِّ إجراءات أميركيَّة، حتَّى لو كانتْ غير قانونيَّة حسب الأعراف والمواثيق الدّوليَّة. وأخيرًا، لأنَّ هذا التَّوَجُّه رُبَّما كان ضروريًّا في ظلِّ تصاعد اليمين المُتطرِّف والسَّلفيَّة والأُصوليَّة في الغرب والشَّرق على السَّواء.

على الرَّغم من كُلِّ ذلك، فإنَّ وصول السَّلفيَّة الأميركيَّة إلى ذروتها بما يعنيه من احتمال هيمنة اليمين المُتطرِّف في أوروبا وحتَّى احتمال عودة التَّطرُّف الأُصولي إلى منطقتنا قد يكُونُ مؤشِّرا على نهاية حقبة من تاريخ البَشَريَّة وبداية حقبة جديدة. فلا شكَّ أنَّ كُلَّ هذه السِّياسات الجديدة المتوقَّعة بما تحمله من انعزاليَّة أميركيَّة تفتحُ بابًا للاعبِينَ جُدد في السَّاحة الدّوليَّة. رُبَّما لا يستطيع هؤلاء الصَّاعدون النَّيْل من سطوة أميركا وهَيمنتِها، لكن كُلّ ذلك الحراك سيؤدِّي إلى خلخلة ما تبقَّى من أُسُس النِّظام الدّولي بعد الحرب العالَميَّة. وبِغَضِّ النَّظر عن تأثير ذلك على مستقبل أميركا، فإنَّه رُبَّما يكُونُ في مصلحة البَشَريَّة كُلِّها والنِّظام العالَمي الَّذي يمرُّ بفترةِ ميوعة واهتراء منذُ ثمانينيَّات القرن الماضي بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار النِّظام ثنائي القطبيَّة. ولأنَّ السَّلفيَّة والأُصوليَّة والتَّطرُّف والعنصريَّة لا تَبني مستقبلًا، ودائمًا عمرها قصير في مسار تطوُّر البَشَريَّة عَبْرَ التَّاريخ كما تخبرنا فترات سابقة، فإنَّ الفترة القادمة على تقلُّبها وعُنف صدماتها رُبَّما تكُونُ آخر حلقات الفترة الانتقاليَّة بَيْنَ مرحلتَيْنِ من تطوُّر البَشَر على الأرض. والأمل أنَّه رغم كُلِّ ما يبدو سلبيًّا تبقَى هناك جماعات مرجعيَّة في دوَل وأُمم ومناطق تحفظ للبَشَريَّة مبادئها الأصيلة السَّويَّة لِتكُونَ أساسًا للبناء عَلَيْه ما بعد التَّطرُّف والشَّطط. حتَّى لو شهدَ العالَم عُنفًا أكثر واضطرابات واسعة، فلننظُرْ للأمْرِ بإيجابيَّة أنَّ ما هو آتٍ أفضل ولنقنعْ بمقولة «تفاءلوا بالخير تجدوه».

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]