شكّل البحر والجبل والفلج حياة العمانيين منذ قدم التاريخ، حيث البحر، علاوةً على ما يزخر به خيرات، كان نقطة تواصل أهل عمان في أصقاع الأرض، إن لم يكن للتجارة، فلنشر الحضارة والإسلام، ليس انتهاءً بالصين وليس بدايةً في شرق أفريقيا، والجبل هو السد المنيع ضد الغزو الخارجي، فعمان عبر التاريخ كانت عصيةً على الغزو والاستعمار، حيث الجبال قلاع يتحصن فيها أبناؤها، فيما كان الفلج هو شريان حياةٍ ليس للإنسان فقط بل لكل من يعيش في عمان من طير وحيوان وزرع، لذا من يقرأ التاريخ العماني يجد أن الغزاة يعمدون إلى طمر الآبار وهدم الأفلاج أثناء المعارك ليقينهم أنهم بهذا يقطعون المُغذّي الرئيسي للحياة في عمان.
هو الفلج رفيق العماني منذ أن بدأ يعيش في هذه البلاد الطيبة إلى اليوم، الفلج اكتشافٌ حضاري عماني بامتياز شديد ، تفرح الأرواح قبل القلوب عند رؤيته متدفقاً بالماء، وفي زمن القحط تدمع العيون فيما الألسن تلهج بالدعاء إلى المولى عز وجل أن يرزقهم الغيث وألاّ يكونوا من القانطين حتى تعود الحياة للفلج، هو منبع حياة العمانيين ومصبها، صديق الضرع والزرع ، الفلج قصيدة وقصة ورواية، لا أعلم إن كان هو الأب أو الأخ أو الصديق، ربما هو كل هؤلاء جميعاً، وشكّل الفلج حياة أهل عمان الثقافية والاجتماعية والإقتصادية وتجد اهتمامهم ومحبتهم له تصل حد التقديس، فمثلما قرأت في أحد الكتب لا ترمى جثث الحيوانات النافقة ولا الأوساخ والقاذورات فيه دلالةً على هذا، كما أن عملية شق الفلج مرتبطة بعلوم أخرى كثيرة لا تقتصر على علم الفلك وحده بل بالحساب وطبقات الأرض وغيرها من العلوم، والعماني مرتبط بالفلج منذ ولادته حتى مماته سواء بالعمل فيه أو السقي أو الاستخدامات الأخرى، ولإنني ابن قرية، أعتبر الفلج كائنا حيا يتمشى ويعيش مع العمانيين وليس مجرى مائي وحسب، يمرضُ لمرضهم ويفرح لفرحهم، وجود الأفلاج الدليل الحي الباقي إلى اليوم على عبقرية العمانيين منذ أقدم العصور، وإن أدعّى البعض على أنهم أول من شق الأفلاج ألا أن ليس ثمة دليل أو شبه دليل على ذلك فأغلب المؤرخين ينسب عملية شق الأفلاج إلى عبقرية أهل عمان، الفلج ضيف أهل عمان كل لحظة وفي نفس الوقت هم ضيوف عند في نفس اللحظة، وإذا ما تمعنا في الفلج من بداية أختيار المكان الذي تحفر فيه الأنفاق والأدوات المستخدمة والمواد وعملية تقاسم مياه الفلج والإستخدامات الحياتية والزراعية وغيرها، لحريٌّ أن يكون هناك علم خاص هو علم الأفلاج، هذا العلم الذي يعكس إبداع العماني وتعامله مع البيئة التي يعيش فيها مهما كانت قساوتها .
???
أتساءل هنا لماذا لا توجد موسوعة عمانية عن الأفلاج، أو الشروع في عمل هذه الموسوعة، إن وجود هذه الموسوعة يساهم في التعريف بهذا الإرث الحضاري والتعريف به ليس للأجيال القادمة بل للعالم إذا تم ترجمتها إلى لغات أخرى، خصوصاً أننا نعيش في زمن تجرف فيه وسائل التواصل الإجتماعي أشياء كثيرة وتقوم بتسطيح المعرفة والجمال، موسوعة تحتوي على تاريخ الأفلاج وبداياتها وأنواعها وتقسيماتها والأدوات المستخدمة لشقها وأنظمة الري الشبيهة بها في الدول الأخرى، بمعنى أصح إن تمت موسوعة علمية تختص بالأشياء المهمة لهذا الإرث الإنساني العماني .
إن مشروع الموسوعة العمانية للأفلاج إن تم، علاوةً أنه سيكون رصيدا معرفيا للأجيال الحاضرة والأجيال المستقبلية ، ألا أنه سيكون لمسة وفاء للأجداد الذين قاموا له العيش بهذا الإكتشاف الإنساني الفريد وقاموا بإنشاء نظام مائي فريد في العالم ليتسنى له العيش في بيئة وتكويناتٍ قاسية، وأيضا للفلج الذي أعطى عمان والعمانيين الكثير والكثير، خصوصاً وأن للسلطنة تجارب مهمة وناجحة في عمل الموسوعات كالموسوعة العمانية، وموسوعة أشجار المانجو . هي أفكار أتمنى أن تتحقق، ولا أظن أنها ستكلف الكثير إن تمت، ولكنها ستعطي وتقدم الكثير .
ناصر المنجي
كاتب عماني