لا شكَّ أنَّ مصطلح المشروعيَّة والَّذي يُعَدُّ من المفاهيم الأساسيَّة في عِلم السِّياسة من المتطلَّبات الأساسيَّة لضمانِ استقرار واستمرار السُّلطة في أيِّ نظام سياسي. فالاستقرار شرط ضروري لاستمرار الحُكم بِمَنْأىً عن الاضطرابات والنِّزاعات المختلفة، ونركِّز على الاستقرار عمومًا، والاستقرار السِّياسي على وجْهِ الخصوص؛ لأنَّ النَّتائجَ المترتبة على رفضِ السُّلطة أو عدم نجاحها وتقبُّلها من قِبل الشَّعب أو الجمهور سيؤدِّي وبشكلٍ تلقائي إلى فقدان الثِّقة السِّياسيَّة بها، الأمْرُ الَّذي سينتج عَنْه مع الوقت العديد من التَّحدِّيات والإشكاليَّات الخطيرة الَّتي بِدَوْرها ستؤدِّي إلى المزيد من المُشْكلات والأزمات داخل الدَّولة وعلى الصَّعيد الدّولي.
في الجانب الآخر يصبح من البديهي أنَّ فقدانَ هذه المشروعيَّة سيترتَّب عَلَيْه مع الوقت عدم قَبول تلك السُّلطة ورفض النِّظام السِّياسي الحاكم، وإن استمرَّ في السُّلطة استنادًا إلى الشَّرعيَّة الواقعيَّة، وفي أحسنِ الظُّروف الانقياد لهذا النِّظام عَبْرَ القوَّة القهريَّة أو الخضوع المؤقَّت. بمعنى آخر، دُونَ وجود رضا شَعبي على تلك السُّلطة، الأمْرُ الَّذي يفسح المجال لظهورِ المعارضة الدَّاخليَّة بمختلف أشكالها، وما يُمكِن أن يتبعَها من أزمات تُهدِّد العلاقة والوئام بَيْنَ الطَّرفَيْنِ، كما أنَّ هذه الفجوة الخطيرة ـ لا شكَّ ـ أنَّها ستكُونُ من أكثر الأسباب الَّتي ستؤدِّي إلى تدخلات الخارج.
نفهم من سياق ما سبق أنَّ المشروعيَّة المقصودة هنا هي محصّلة الثِّقة والرِّضا العامِّ على السُّلطة في النِّظام السِّياسي على أساس أن تقبلَ الشَّعب وموافقته طوعًا لا كرهًا على تقديم الطَّاعة وقَبول الخضوع لتلك السُّلطة هو الَّذي يمنحها المشروعيَّة لممارسة الهيمنة والقوَّة والتَّحكُّم؛ يقابلها في الجانب الآخر السُّلطة المستبدَّة أو الحكومة الدكتاتوريَّة الَّتي يخضع لها الشَّعب أو الجمهور دُونَ رِضا أو قَبول رغم قدرتها على الاستمرار في السُّلطة وفرض السَّيطرة ظاهريًّا، وفي أحسنِ الأحوال تستند هذه السُّلطة على شرعيَّة واقعيَّة أو فعليَّة ولكنَّها لم تصلْ إلى المشروعيَّة.
من هذا المنطلَق نجد أنَّ أهمَّ أشكال المشروعيَّة الَّتي يَجِبُ أن تركِّزَ عَلَيْها السُّلطة في أيِّ دَولة هي المشروعيَّة الشَّعبيَّة ثمَّ المشروعيَّة السِّياسيَّة؛ لأنَّ الأخيرة تتحقَّق بشكلٍ متوائم مع الأُولى، وهي نتيجة طبيعيَّة لها. وبالنَّجاح في اكتساب هاتَيْنِ الشَّرعيَّتَيْنِ يُمكِن القول إنَّ السُّلطة السِّياسيَّة في أيِّ بلدٍ قد حصلتْ على أبرز مُقوِّمات استقرارها واستمرارها. وبمعنى آخر: تُعَدُّ شرعيَّة النِّظام السِّياسي من الدَّعائم الأساسيَّة للاستقرار السِّياسي، والاستقرار السِّياسي يُعَدُّ بِدَوْره من دلائل المشروعيَّة السِّياسيَّة.
فما المقصود المشروعيَّة الشَّعبيَّة والمشروعيَّة السِّياسيَّة، والَّتي يَجِبُ أن ترتبطَ بأيِّ سُلطة حاكمة لكَيْ تصبحَ هذه الأخيرة مقبولة من قَبل الشَّعب أو الجمهور؟
عِندَ تسليط الضَّوء على مصطلح المشروعيَّة السِّياسيَّة ومصطلح المشروعيَّة الشَّعبيَّة نجد أنَّ الأوَّلَ أكثر تعقيدًا وأقلُّ وضوحًا من المصطلح الثَّاني. فعلى ما يبدو وكحال أغْلَبِ المصطلحات الإنسانيَّة واشتقاقاتها مِثل السِّياسة والحُكم الرَّاشد والقيادة تتعدَّد معانيها ومقاصدها وفقًا لِتعدُّدِ المدارس والرُّؤى الَّتي يُمكِن أن تفسِّرَ هذا المفهوم وذاك حسب تصوُّرها الخاصِّ، وبما يتناسب مع قناعاتها وتوجُّهاتها الأكاديميَّة، وحتَّى مقدار الحُريَّة وشكل النِّظام السِّياسي الحاكم من حيثُ مساحة الديموقراطيَّة، بالتَّالي قد يكُونُ من الصَّعب الإجماع على تعريف موحَّد للشَّرعيَّة السِّياسيَّة.
في وقتٍ يُمكِن فيه تقريب المقاصد من المشروعيَّة الشَّعبيَّة عَبْرَ ارتباط هذه المشروعيَّة برِضا الشَّعب وثقته بالسُّلطة، بالتَّالي فإنَّ المشروعيَّة الشَّعبيَّة هي المشروعيَّة الَّتي تمنحها الشُّعوب للسُّلطات الحاكمة عَبْرَ قَبولها التَّام ورِضاها الخالِص للخضوع والانقياد. بمعنى آخر، أنَّ المشروعيَّة الشَّعبيَّة هي التَّعبير الواضح عن إرادة الشَّعب حيال قَبوله أو عدم قَبوله للنِّظام السِّياسي والحكم القائم، وقد تُعبِّر عن المشروعيَّة الشَّعبيَّة إرادات مختلفة مِثل الإرادة الثَّوْريَّة أو الإرادة الانتخابيَّة.
وقد تتقارب معاني المشروعيَّة السِّياسيَّة والمشروعيَّة الشَّعبيَّة في أنَّهما يلتقيان في المُبرِّر الأخلاقي والقانوني والسِّياسي والاجتماعي الَّذي يمنح السُّلطة القائمة حقَّ الحُكم وإدارة شؤون الدَّولة، تقابلها في الجانب الآخر مفردة الشَّرعيَّة الَّتي قد تُكتسب أو تُفرض. ولكنَّها أي تلك الحكومات والأنظمة القائمة على الشَّرعيَّة ليس بالضَّرورة أن تحصلَ على المشروعيَّة المطلوبة.
على ضوء ما سبَقَ يتَّضح لنَا أنَّ هناك سُلطةً سياسيَّة قد تتمتَّع بالشَّرعيَّة والمشروعيَّة معًا (الأنظمة الوراثيَّة الَّتي تنال رِضا الشَّعب وثقته بها)، وقد توجد سُلطة شرعيَّة، ولكنَّها لا تتمتَّع بالمشروعيَّة (نَفْس الأنظمة الوراثيَّة السَّابقة)، وهناك سُلطة ثالثة غير شرعيَّة مِثل (السُّلطة الثوريَّة) ولكنَّها تتمتَّع بالمشروعيَّة، وسُلطة رابعة غير شرعيَّة ولا تتمتع بالمشروعيَّة في نَفْس الوقت مِثل (الحكومات الانقلابيَّة).
خلاصة بحثيَّة: العمل على رفع مستوى التَّقارب وتعزيز منسوب الثِّقة بَيْنَ النِّظام الحاكم والمواطنين أمْرٌ غاية في الأهميَّة والحتميَّة، بل يُعَدُّ العنصر الأهمّ في العلاقة بَيْنَ السُّلطة والشَّعب، وبِدُونِ وجود رِضا جماهيري وشَعبي على النِّظام السِّياسي والسُّلطة القائمة تفقد السُّلطة مشروعيَّتها وإن كانتْ سُلطة شرعيَّة. أمْرٌ آخر مُهمٌّ في هذا السِياق، وهو ضرورة عدم التَّهاون مطلقًا في مسألة تعزيز مستوى المشروعيَّة الشَّعبيَّة والسِّياسيَّة وربطها بالمشروعيَّة الدستوريَّة وليس العكس، أقصد فرض الشَّرعيَّة الدّستوريَّة عَبْرَ آليَّات قانونيَّة في ظلِّ تراجُع مستوى المشروعيَّة الشَّعبيَّة والسِّياسيَّة، الأمْرُ الَّذي ـ لا شكَّ ـ سيؤثِّر تلقائيًّا في العلاقة بَيْنَ السُّلطة والمواطنِين، ما سيؤدِّي مع الوقت إلى بروز الكثير من التَّحدِّيات والأزمات الوطنيَّة وسيسهل اختراق الخارج للدَّاخل.
بتصرُّف من مؤلَّف غير منشور لي بعنوان: تحدِّيات السُّلطة السِّياسيَّة في الدَّولة الحديثة (دراسة تحليليَّة نقديَّة في إشكاليَّات المشروعيَّة ومعوِّقات الحُريَّة والديموقراطيَّة في الأنظمة السِّياسيَّة المعاصرة)
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @