الأربعاء 15 يناير 2025 م - 15 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

لا شماتة فـي الكوارث

الأربعاء - 15 يناير 2025 02:33 م

د.أحمد مصطفى أحمد

لا تقتصر مخاطر المحتوى المتوافر على شبكة الإنترنت، خصوصًا مواقع التَّواصُل، على نظريَّات المؤامرة والتَّضليل المعلوماتي والتَّزييف العميق حتَّى بالصُّورة والصَّوت. إنَّما أيضًا هناك خطر أكبر من ترويج لنظريَّات المؤامرة والدَّس، بالإضافة إلى تهويلات مواقع التَّواصُل وافتعال المعارك الوهميَّة بغرض زيادة الانتشار. تتفاقم هذه الظَّاهرة باستمرار حتَّى أنَّها تكاد تجعل الكثير من القضايا الأساسيَّة والقِيَم الإنسانيَّة الَّتي تحافظ على قِيمة البَشَر أمورًا مسطَّحة وتافهة. ذلك بالخلط المتعمَّد، أو عن جهل، بَيْنَ ما هو أصلي وما هو مزيَّف وما له علاقة بالمبادئ والقواعد وما هو من باب الهزل والسخريَّة وحتَّى الافتئات والجهل. المصيبة أن يصلَ ذلك إلى منافذ الإعلام التَّقليديَّة بما يجعله أساسًا للنِّقاش والجدل العامِّ ويكسبه جدِّيَّة وهميَّة. لعلَّ كارثة الحرائق في ولاية كاليفورنيا الَّتي دمَّرت مساحات واسعة من مدينة لوس أنجلوس الشَّهيرة ومحَتْ تقريبًا بعض أحيائها الفاخرة وحوَّلَتْها إلى رماد.

لم يخلُ المحتوى على الإنترنت من نظريَّات المؤامرة، الَّتي افترضتْ زيفًا أنَّ الحرائق اشتعلتْ بفعلِ فاعلٍ، بل إنَّ البعضَ روَّج تلفيقًا بأنَّ «أعداء» أميركا أشعلوا الحريق في بدايته مع وقت هبوب الرِّياح العاتية لِينتشرَ الدَّمار في أكبر مساحة ممكنة. هذا بالطَّبع إلى جانب ترويج نظريَّات تتسم بالهطل والجهل المُدقِع مِثل أنَّ الحرائقَ استهدفتْ تحديدًا منطقة بلاسيداز الَّتي يسكنها الأثرياء من نجوم هوليوود والمشاهير، وحيثُ أسعارُ البيوت في تلك المنطقة عالية جدًّا وبالملايين. حتَّى الحقائق الَّتي تُعلنها السُّلطات عن انخفاض نسبة الرطوبة في جنوب كاليفورنيا هذا الموسم إلى جانب شدَّة الرِّياح الآتيَّة من المحيط ما جعل حتَّى مكافحة الحرائق في غاية الصعوبة لم تفلحْ في وقفِ انتشار تلك الخرافات على الإنترنت. ومن المُهمِّ الإشارة إلى أنَّ ذلك السَّفَه والجهل لا يقتصر على جمهور الإنترنت العادي، بل إنَّ مثال الممثِّلة الشَّهيرة الحائزة على جائزة أوسكار الَّتي شبَّهتِ الدَّمار في لوس أنجلوس بالدَّمار في قِطاع غزَّة دليل واضح على أنَّ التَّفاهة والسَّطحيَّة شِبه حالة عامَّة. فكيف يُمكِن تشبيه كارثة طبيعيَّة نتيجة ظروف مناخيَّة متكرِّرة ـ فالحرائق الهائلة أمْرٌ شائع جدًّا في كاليفورنيا تحديدًا ـ بالتَّدمير المتعمَّد والمجازر الَّتي يرتكبها الصَّهاينة تجاه الفلسطينيِّين في غزَّة. فما تفعله الطَّبيعة خارج سيطرة البَشَر، لكن ما يفعله الاحتلال في فلسطين جريمة ضدَّ الإنسانيَّة مع سبق الإصرار والتَّرصُّد وبوعيٍ كاملٍ ممَّن يرتكبها بهدف التَّطهير العِرقي للسكَّان الأصليِّين في بلد محتلٍّ.

كُلُّ ما سبَق شيء ومسألة شماتة البعض فيمن تضرَّروا من كارثة حرائق كاليفورنيا شيء آخر تمامًا. المُصيبة أنَّ هؤلاء الشَّامتِين المتشَفِّين يبرِّرون موقفهم بالدِّين، مع أنَّ الدِّين ـ أيّ دِين ـ وليس الإسلام الحنيف فحسب ـ بريء من مِثل هذا السلوك. بل إنَّه أمْرٌ يتنافى تمامًا مع الطَّبيعة الإنسانيَّة، سواء كان المرء متديِّنًا أم لا. فمَن يُبرِّرون الشَّماتة بأنَّ الحرائق دمَّرت بيوت وممتلكات «فنَّانين»، معتبرِين أنَّ الفنَّ «رجس من عمل الشَّيطان» هؤلاء لا يختلفون عن الإرهابيِّين الَّذين يُبرِّرون ارتكابهم جرائم لا إنسانيَّة بتفسيرات أُصوليَّة متطرِّفة. أمَّا مَن يرَوْنَ أنَّ من حقِّهم الشَّماتة في المشاهير الأميركيِّين؛ لأنَّ بعضهم من أنصار «إسرائيل» ولا يتعاطفون مع ضحايا الاحتلال في غزَّة والضفَّة وغيرها فهؤلاء أيضًا لا يختلفون عن الصَّهاينة. فكما قال أحَد الأكاديميِّين «الإسرائيليِّين» البارزين إنَّ أغْلبَ الصَّهاينة لا يؤمنون بالله، لكنَّهم مقتنعون تمامًا بأنَّ هذا الإله الَّذي لا يؤمنون به وعَدَهم بأرض فلسطين وطنًا!! ولا أريد هناك الرَّدَّ على أمثال هؤلاء بذكر موقف رسول الإسلام الكريم من جاره غير المُسلِم، وإلَّا سيعني ذلك أنَّ موقفهم أصلًا قابلٌ للجدَلِ والنِّقاش. ولا حتَّى الدَّفع بأنَّه ليس كُلُّ مَنِ احترقتْ بيوتهم وممتلكاتهم، حتَّى لو كانوا مشاهير أو أثرياء، من المؤيِّدين لمجازر الصَّهاينة في فلسطين. بل إنَّ مِنْهم مَن دفَعَ ثَمَنَ موقفه المُعلَن رفضًا لجرائم «إسرائيل» واتُّهِم بمعاداة السَّامية!

إنَّما ما حدَث في كاليفورنيا لا يختلف عمَّا يحدُث في مناطق أُخرى من العالَم، من اليابان إلى الهند وسريلانكا وإندونيسيا من كوارث طبيعيَّة كالزَّلازل والتّسونامي الَّتي تُدمِّر ممتلكات البَشَر، بل وتُوقِع ضحايا مِنْهم قتَلَة وتترك الملايين مشرَّدِين. لا يختلف الأمْرُ بَيْنَ بلدٍ غني وبلدٍ فقير، أو بَيْنَ شَعبٍ مُسلِم أو غير مُسلِم ـ وحتَّى مؤمن بدِين أو غير مؤمن، ففي النِّهاية هؤلاء بَشَر من بني جِنسي. وليس التَّعاطف معهم أمْرٌ إنساني فقط، بل إنَّه واجب تحثُّ عَلَيْه كُلُّ الأديان. ليس التَّعاطف فقطـ وإنَّما الدَّعم والمؤازرة والمساعدة ما أمكن. ذلك مبدأ بسيط وأساس وغير قابل للنِّقاش في موقف البَشَر من الطَّبيعة ومواجهة تقلُّباتها. الحقيقة يصعب تصوُّر كيف يفرح إنسان ـ مجرَّد كونه إنسانًا ـ في كارثة طبيعيَّة تقع على إنسان آخر. لا أنكر أنَّني صعقتُ بما تابعتُ على مواقع التَّواصُل من تعبيرِ البعض عن فرحهم بالدَّمار الَّذي أحدثتْه الحرائق، وأكثر ما يُثير الغضب والانزعاج أن يُبرِّرَ هؤلاء موقفهم بستارٍ من الدِّين. رُبَّما ليس مطلوبًا التَّبرُّع لضحايا حرائق كاليفورنيا، فشركات التَّأمين ستُعوِّض الأحياء مِنْهم، ولعلَّ هناك منافذ أولى بالتَّبرُّعات. لكن على الأقلِّ، كإنسان نقول لا شماتة في الكوارث وإلَّا فقَدْنا إنسانيَّتنا قَبل تَديُّنِنا.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]