في إحدى قرى ولاية قريات الساحلية التي تحظى بجمال الطبيعة وتنوعها وتنتشر فيها بساتين النخيل التي ترويها مياه الأفلاج المتدفقة بهدوء، نشأت (أمجاد الحارثية). كانت قريات، بموقعها الاستراتيجي على الساحل وتاريخها العريق الممتد عبر القرون، تزخر بالأماكن الأثرية والطبيعة الساحرة التي تحمل بين طياتها حكايات وأساطير الماضي وإنجازات النهضة المعاصرة.
ترعرعت (أمجاد) بين أحضان أسرة مزارعة بسيطة، عاشت طفولة متواضعة مليئة بالتحديات، في وقت لم يكن أهلها على وعي كافٍ بأهمية التعليم عندما فتحت المدارس أبوابها مع بزوغ فجر النهضة المباركة.
لذلك، لم تحظَ (أمجاد) بفرصة التعليم النظامي في صغرها، ومع ذلك، كان لهذه البدايات المتواضعة دور كبير في تشكيل شخصيتها العصامية وبناء إصرارها على تحقيق أحلامها في المستقبل، في عام 1975م، استهلت أمجاد شبابها بوظيفة مراسلة في مدرسة ابتدائية. كان عملها بسيطًا، ينحصر في توصيل الرسائل وتنظيم الأوراق، لكنها كانت تعشق الكتب التي كانت تلاحظها بشغف على طاولات المعلِّمات وهوى أقلام الأطفال التي ترسم المستقبل.
ذات يوم، بينما كانت ترتب مكتبة صغيرة في غرفة المعلِّمين، استوقفتها عبارة مكتوبة على غلاف أحد الكتب: (التعليم هو المفتاح لكل باب مغلق)، أحست أمجاد أن هذه الكلمات تخاطبها مباشرة. ومن هنا بدأت رحلتها.
التحقت أمجاد بفصول محو الأمية في قريتها، وجلست بين النساء اللاتي يشاركنها الشغف بالتعلم. كانت خطواتها الأولى ثقيلة، لكنها ما لبثت أن أظهرت تفوّقًا واضحًا، مما أهلها للانتقال من الصف الأول إلى الصف الثاني الابتدائي. لكن المفاجأة الكبرى جاءت عندما قرر المشرفون على برنامج محو الأُمِّيَّة منحها فرصة للانتقال مباشرة إلى الصف الخامس، بناءً على أدائها المميز.
هذا الإنجاز لم يكن نهاية الطريق، بل كان بداية لحلم أكبر. أكملت أمجاد تعليمها الثانوي في فصول تعليم الكبار، حيث كانت تخصص ساعات الليل للمذاكرة، متحدِّية التعب والظروف الاجتماعية. لم تكن رحلتها سهلة؛ فقد واجهت نظرات مستغربة وأسئلة متكررة عن سبب إصرارها على التعليم في هذا العمر. لكنها كانت تجيب بابتسامة:(لأنني أستحق أكثر).
بعد سنوات من العمل الجاد، حصلت (أمجاد) على شهادة البكالوريوس في تخصص التاريخ بنظام الانتساب. حينها، شعرت أن السماء فقط هي حدود طموحها. التحقت بدبلوم التأهيل التربوي، وتم تعديل وظيفتها إلى معلمة للدراسات الاجتماعية في نفس المدرسة التي تعينت فيها مراسلة. في الفصل الدراسي، كانت تختلف عن غيرها من المعلِّمات؛ فقد كانت تجربتها الشخصية تلهم طالباتها وتجعلهن يقدرن قيمة التعليم.
لكن (أمجاد) لم تتوقف هنا. فقد دفعها شغفها بالعلم لاستكمال دراستها العليا. درست برنامج ماجستير في التاريخ، وتخصصت في دراسة التاريخ الإسلامي. وبعدها، بدأت رحلة الدكتوراه التي كانت الأصعب لكنها الأكثر إثارة. وكان عنوان بحثها: (دور المرأة العُمانية الفتوحات الإسلامية)، وهو موضوع استلهمته من رحلتها مع التاريخ. اليوم، تعيش (أمجاد الحارثية) كرمز للعزيمة والإصرار. أصبحت أستاذة جامعية ومحاضرة بارزة، تنقل خبرتها للأجيال القادمة. تقود مبادرات لتعليم الكبار وتشجع النساء في المناطق الريفية على التعلم. قصتها أصبحت مصدر إلهام للرجال والنساء، وخصوصًا النساء اللاتي يعتقدن أن قطار التعليم قد فاتهن. تقول أمجاد في أحَد لقاءاتها: (الحياة لا تعطي الفرص، بل نحن من نصنعها. لم يكن الطريق سهلًا، لكنه كان يستحق كل خطوة. اليوم، أرى نفسي ليس فقط كمعلِّمة أو باحثة، بل كرسالة تُثبت أن بالإرادة يمكننا تغيير كل شيء).
دـ أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية