اليوم يوم عيد لي وهديَّة ربَّانيَّة دفعَتْني بكُلِّ تلقائيَّة أن أكتبَ عمَّا يموجُ في نَفْسي وخاطري من مشاعر وأفكار وذكريات يُمكِن أختزلها تحت عنوان «قصَّة حياتي».
حلَّ عَلَيْنا ـ أهلًا وسهلًا في أرض عُمان ـ جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة المُعظَّم ملك مملكة البحرين، وهذه المملكة هي موطن ولادتي وطفولتي، وهي الأُمُّ الحنون الَّتي احتضنتْ بدفءٍ ورعَتْ تحت جناحَيْها كُلَّ مَن شاءتِ الأقدار أن يحظَى بالعيشِ فيها من أبناء عُمان في فترة شدَّتهم. هذه الجزيرة الصَّغيرة بحجمِها الجغرافي، والعملاقة بسخاءِ أهلِها وصفاء نُفوسهم وتواضُعِهم الجميل العفوي والتّلقائي لم تَبخلْ عَلَيْنا بشيء. فأهلُها استقبلونا ولسانُ حالِهم يقول: يا هلا بأهلِ عُمان الأشقَّاء الأعزَّاء الأشاوس الَّذين في قرون مضَتْ أبَتْ أنَفَتُهم وحميَّتُهم العربيَّة الإسلاميَّة الأصيلة أن يَروا الغزاة يجثمون على صُدور ذويهم في الخليج فأقدموا وشقُّوا البحر وصولًا للبحرين والعراق لطردِ الغزاة من معاقلهم ورفع أيديهم عن أهلِنا وذوينا.
لقَدْ فتحَ لنَا أهلُها مدارسهم ومستشفياتهم وما توافر من مصادر لكسبِ العيش، وقَبل كُلِّ ذلك فتَحُوا لنَا قلوبَهم السَّخيَّة. أتذكَّر وأنا صغير، في بَيْتِنا الحكومي الشَّعبي الصَّغير الَّذي أمرَ الشَّيخ سلمان ـ رحمه الله وطيَّب ثراه ـ بمَنحِه لوالدي ـ رغم أنَّه لا يحمل الجنسيَّة البحرينيَّة ـ صورة كبيرة في برواز مزخرف في غرفة والدي للشَّيخ الرَّاحل سلمان، وعِندَما كنَّا نسألُه: لماذا هذه الصُّورة الكبيرة الَّتي تملَؤُ الجدار؟ كان يقول ـ رحمة الله عَلَيْه ـ هذا الشَّيخ سلمان صاحب الكرَم والسَّخاء، ونحن ننعم بالعيش في هذا المنزل منحةً مِنْه؛ لأنَّه لا يرى في أبناء عُمان غرباء، بل أهلٌ أعزَّاء.
وفي عام 1970 ورغم صغري أتذكَّر الوالد وزوَّاره من الجالية العُمانيَّة في حالة احتفاء وغبطة، وسمعتْ آذاني لأوَّل مرَّة اسم الأب والقائد و»المخلص» السُّلطان قابوس ـ طيَّب الله ثراه وجزاه خيرًا عن كُلِّ أهلِ عُمان ـ ولم أدركْ في حينه أبعاد قُدوم السُّلطان الجديد، ولكن شهدتُ وخبرتُ أهميَّة هذا الحدَث العظيم بأُمِّ عَيْني في السَّنوات التَّالية تباعًا وما انطوى عَلَيْه من خيرٍ وفير ماديًّا ومعنويًّا ووطنيًّا لكُلِّ أبناء عُمان على امتداد جغرافيَّتها التَّاريخيَّة والحاليَّة.
ركبتُ الطَّائرة لأوَّل مرَّة مع والدتي وأخي في عام 1973 متَّجِهِين من البحرين إلى عُمان، وأذكر في هذه الرِّحلة وجود عددٍ كبير من العُمانيِّين في الطَّائرة من كِبار السِّن باللّبس العُماني المميَّز ووجوههم المستبشرة برحلتهم وشوقهم ولهفتهم لرؤية زوجاتهم وأبنائهم وأشقَّائهم، وكافَّة ذويهم بعد غيابٍ طويل أزاحه عَنْهم القُدومُ الميمون لجلالة السُّلطان الأب والقائد ـ طيَّب الله ثراه. كان جلُّهم لا يعرفون القراءة والكِتابة ولجؤوا لي ولأخي واحدًا تلْوَ الآخر لملء بطاقة الهجرة والجمارك لدخولِ مطار السيب (آنذاك).
ولدَى وصولِنا مطار السيب (آنذاك) لفَتَ نظري الفَرق الشَّاسع بَيْنَ مطار البحرين ومطار السيب القديم المتواضع. وبعد ذلك بالطَّبع دهشتُ من عددِ الأهلِ الكبير في استقبالنا، وتعرفتُ فقط على شقيقَي الكبيرَيْنِ اللَّذيْنِ سبَقا بقيَّة الأُسرة في الانتقال إلى عُمان، وأمَّا البقيَّة فكانتِ المرَّة الأُولى الَّتي تراهم فيها عَيْناي من خالات وأخوال وأبنائهم، ناهيك بالطَّبع لاحقًا من زيارتي بمعيَّة والدي إلى بركاء، حيث التقيتُ بأعمام وعمَّات لم أكُنْ أعرف حتَّى أسماءهم.
ومرَّتِ السُّنون بَيْنَ الدِّراسة في البحرين وفي عُمان في المدرسة السعيديَّة في مسقط ومدرسة الإمام جابر بن زيد بالوطيَّة، وشاءتِ الأقدار أن أعُودَ مجددًا إلى البحرين في عام 1980 لتكملةِ السَّنة الأخيرة من الثَّانويَّة العامَّة. وفي أحَد الأيَّام الدِّراسيَّة استُدعيتُ إلى مكتب مدير المدرسة بمعيَّة زميلي العُماني في صفِّي الأخ العزيز عدنان بن حيدر بن درويش الزعابي ووجدنا شقيق عدنان، الأخ العزيز زهير بن محسن بن درويش الزعابي، وقد كان في صفٍّ آخر، بمكتب المدير، وجال في خاطرنا ونحن مندهشون بأنَّنا ارتكبنا عملًا مشاغبًا، وهو حال مُعْظم الطَّلبة في مرحلة الثَّانويَّة، إلَّا أنَّ ملامح المدير لم تَشِ بذلك، حيث رحَّب بِنا وعرَّفنا على شخص جالس بمكتبه وقال إنَّ هذا مندوب سفارة سلطنة عُمان في البحرين، وحسب سجلَّاتهم بأنَّكم مقبلون على التخرُّج في هذا العام، وهو هُنا لتقوموا بتعبئة استمارة طلب بعثة دراسيَّة من وزارة التَّربية والتَّعليم العُمانيَّة. عِندَما أتذكَّر هذه التَّجربة والَّتي أسردُها مرارًا وتكرارًا على أولادي وزملائي من الجيل الجديد لِيُدركوا أنَّ هذا الوطن وسلاطينه الكرام لم يبخلوا قط على تقديم كُلِّ دعمٍ ورعايةٍ متاحة لأبناء الوطن وفق المصادر المتوافرة بَيْنَ أيديهم في كُلِّ حقبة تاريخيَّة، وأنا وأقراني كنَّا محظوظين بأن نعيشَ ونكبرَ في حقبة القائد الأب جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه. هذه عُمان الَّتي انتشلتنا من غربة الأهل والوطن ومهَّدتْ لنَا كُلَّ السُّبل للعيشِ الكريم العزيز، وهذه عُمان النَّهضة المُتجدِّدة المباركة في ظلِّ سُلطانها هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه ـ وعلى درب النُّهوض والتَّجديد والبناء المستمر سدَّد خُطاه. السُّلطان النَّجيب ابن السَّلاطين العظام سليل الإمام أحمد بن سعيد طارد الغزاة والسُّلطان سعيد بن سُلطان سيِّد البحار والجغرافيا الشَّاسعة من آسيا إلى إفريقيا.
وعودًا إلى الزِّيارة الميمونة لجلالة ملك حمد بن عيسى المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ حفيد الرَّاحل الشَّيخ سلمان الَّذي لا تفارق صورته ذاكرتي وأنا أشاهدها كُلَّ يوم تزيِّن جدار غرفة أبي وكأنَّها وسام شرفٍ يفتخر ويعتزُّ به. هذه الزِّيارة الميمونة الَّتي أثارتْ في نَفْسي الذِّكريات الشَّخصيَّة ورحلة العمر، وجعلتني أكتبُ هذه السُّطور دُونَ أن أعرفَ أين أتوقف.
وفي الختام لا يسعني إلَّا أن أقولَ باْسْمِي واسْمِ كُلِّ عُماني وطأت قدَماه أرض البحرين مغيثًا أو زائرًا أو باحثًا عن العيش الكريم، أقول شكرًا من القلب والوجدان للحبيبة مملكة البحرين، بحرين الأُم والطفولة والصّبا، بحرين التَّواضع وجَمال الرُّوح وعفَّة النَّفْس، فهنيئًا لكم شَعبًا وحكومةً وقيادةً ملكيَّة خيِّرة نيِّرة تجسِّد خصالكم الأصيلة والنَّبيلة.
عبدالغفار بن عبدالكريم البلوشي
سفير سلطنة عمان لدى بنجلاديش