الثلاثاء 14 يناير 2025 م - 14 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

عمان ورهانات الذكرى الخامسة

عمان ورهانات الذكرى الخامسة
الاثنين - 13 يناير 2025 02:10 م

د. سلطان بن خميس الخروصي

70


تُشكِّل القِيَم الإنسانيَّة خريطة طريق لمَجدِ الأُمم ورسم لوحة حضاريَّة للأجيال المتعاقبة، وتمثِّل المواقف مفتاح تلك الخريطة لتكُونُ شمسًا في وسط أقمار مكفهرة في أنوارها الباهتة، وأمام تلك المواقف الخالدة الَّتي تسجِّلها كتُب تاريخ (العواذل) قبل أهلِ الدَّار مواقف عُمان منذُ الأزمنة السَّحيقة وحتَّى اللَّحظة وإلى أن يرثَ الله الأرض ومَن عَلَيْها. إلَّا أنَّه لا يخلو فضاء الفراغ والوحشة من وجود بعض المراهقين ممَّن لَهُم صولاتهم وجولاتهم في السَّاحة الفكريَّة والإعلاميَّة والدِّينيَّة والسِّياسيَّة بأن يتسلقوا إلى الشُّهرة (المقنَّعة) عَبْرَ استثمار غياب الوعي المعرفي والمعلوماتي والتَّاريخي في الوطن العربي لبثِّ بعض الفقاعات الفارغة بدافع الشُّعور بالنَّقص، فلا ضَير بَيْنَ الفينة والأخرى أن تنبريَ الأقلام الوطنيَّة المجيدة في نشْرِ الوعي والمعرفة لاستظهار بعضٍ من المواقف التَّاريخيَّة العُمانيَّة الثَّابتة الَّتي تُبرهن اليوم بمواقف مشرِّفة استمرارًا للمسؤوليَّة التَّاريخيَّة والحضاريَّة وليسَتْ مواقف عاطفيَّة وآنيَّة مرتجلة لكثير من الأحداث الرَّاهنة.

لقَدْ شكَّل الحادي عشر من يناير علامة فارقة في التَّاريخ العُماني الحديث على الصَّعيديْنِ الدَّاخلي والخارجي يُمكِن أن نوجزهما في الآتي:

أوَّلًا: الصَّعيد الدَّاخلي

ـ تُشكِّل المرحلة الانتقاليَّة في نظام الحُكم على اختلاف مُسبِّباتها أبرز التَّحدِّيات الجسيمة الَّتي تعكس واقع النُّمو السِّياسي والاتِّزان المُجتمعي في أيِّ أُمَّة؛ فالانتقال السَّلِس، والتَّخطيط الرَّفيع لنظام حُكمٍ سابق إلى نظامٍ لاحق بكُلِّ هدوء وأريحيَّة ورضا نادر في ظلِّ مُستحكمات عصيَّة تُحيط بعالَمنا المُعاصر الَّذي تشوبه العديد من المصالح المتقاطعة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وحتَّى أيديولوجيًّا، وقد كسبتْ عُمان قيادةً وشَعبًا وأرضًا هذا الرِّهان.

ـ لقَدْ أكَّد جلالة السُّلطان هيثم ـ حفظه الله ـ في أوَّل خِطاب ألقاهُ على قوَّة وأهميَّة اللُّحمة الوطنيَّة في استكمال مَسيرة بناء عُمان الحديثة، والعمل دُونَ كلَلٍ أو ملَلٍ للذَّود عن حياضها، والضَّرب بِيَدٍ من حديد على كُلِّ مَن تُسوِّل له نَفْسه أن ينثرَ بذور الشِّقاق والتَّفرقة والتَّحزُّب، وقد كسبتْ عُمان هذا الرِّهان.

ـ عقدتِ المنهجيَّة السِّياسيَّة العزم على تحقيق التَّعاون والتَّكامل الاقتصادي والاجتماعي بَيْنَ الحكومة وعلى رأسها جلالته ـ أعزَّهُ الله ـ وبَيْنَ المُجتمع بجميع أطيافه وأعراقه ومذاهبه ومِلَله ونِحَله، فهما عَيْنانِ في وجْهٍ مُشرق، ويدانِ لا يُمكِن التَّصفيق بواحدة دُونَ الأخرى، ليتمخضَ كُلُّ ذلك في جملة من التَّشريعات والسِّياسات والقرارات الاستراتيجيَّة نَحْوَ تحقيق الصَّالح العامِّ كقانون العمل، وقانون الحماية الاجتماعيَّة وغيرهما.

ـ كان يظهر جليًّا للمراقبِينَ فلسفة توجُّه الحُكم الجديد في عُمان حَوْلَ التَّحديث والتَّجديد في هيكلة مؤسَّسات الدَّولة وقِطاعاتها المتشعِّبة الَّتي كانتْ في فترةٍ من الفترات أحَد أهمِّ أسباب غياب الرَّقابة والمتابعة والفحص والتَّدقيق، ومن هنا جاء الفِكر المستنير بضرورة إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدَّولة والَّذي شهدنا نماذج له ولا تزال مؤسَّسات الدَّولة في مرحلة التَّطوير والتَّنمية والتَّحديث بما يتواءم والمصلحة العامَّة ومتطلبات رؤية «عُمان 2040»، وقد كسبتْ عُمان هذا الرِّهان.

ـ مَن يفتحُ شُرفة رأي الحكومة الجديدة منذُ تولِّي جلالته مقاليد الحُكم يشعُر بانجرافٍ كبير يَقُودُه جلالته نَحْوَ تعزيز التوَجُّه الاقتصادي بتمكين الاستثمار وتسهيل الإجراءات وتذليل العقبات والاستفادة من الإمكانات الطبيعيَّة والتَّاريخيَّة والحضاريَّة والإنسانيَّة الَّتي تتمتع بها سلطنة عُمان؛ ليكُونَ رافدًا أساسيًّا إلى جانب النِّفط والغاز وهما ناضبان، كما أنَّ التَّعويل عَلَيْهما تحكمه مؤثِّرات سياسيَّة واقتصاديَّة دوليَّة قد تكُونُ سببًا في صعوبة تحقيق الخطط التَّنمويَّة، وقد كسبتْ عُمان هذا الرِّهان من خلال المؤشِّرات الاقتصاديَّة والرُّؤية المستقبليَّة الاقتصاديَّة الَّتي تنشرُها المنظَّمات الدوليَّة المعتمدة والمُتخصِّصة.

ـ منذُ تولِّي جلالة السُّلطان هيثم بن طارق ـ أيَّده الله ـ مقاليد الحُكم كانتْ لُغة الخِطاب تجاه الأهميَّة الوطنيَّة والاستراتيجيَّة لقوَّات السُّلطان المُسلَّحة واضحةً وصريحة ومؤكّدة؛ فهي الذِّراع الآخر لجسدِ الوطن إلى جانب ذراعه المَدَني؛ وهي الحافظ لأمْنِه واستقراره، وهي مفاتيح الخريطة الماجدة لعُمان الخلود، وهي الصَّوت الرَّخيم السَّامي للاعتزاز والفخر، وهي صمام الأمن والأمان لكُلِّ شِبرٍ من الوطن العزيز، وهي الحاضن الأوَّل للموقف التَّاريخي الخالد لانتقالِ الحُكم من مرحلة التَّأسيس والبناء إلى مرحلة التَّجديد والنَّماء، فنجد أنَّ جُلَّ خِطاباته واضحة بَيِّنَة لا لبْسَ فيها بأهميَّة هذه الذِّراع الاستراتيجيَّة في الفلسفة السِّياسيَّة للبلاد وبَيْنَ قلوب أبناء المُجتمع، وما حادثة الوادي الكبير ـ العرضيَّة ـ ببعيد عنَّا حيث استطاعتْ عُمان أن تلملمَ جرحها المؤلِم بكُلِّ سرعة وهدوء وبعيدًا عن الفرقعات الإعلاميَّة والدوليَّة.

ثانيًا: على الصَّعيد الخارجي

- خلال أكثر من سبعة عقود ونصف شكَّلتِ القضيَّة الفلسطينيَّة مرتكزًا محوريًّا نَحْوَ السِّيادة الاستراتيجيَّة والحلم الخالد في سبيل الوحدة العربيَّة، فمرَّتْ هذه القضيَّة بموجات ارتداديَّة متتاليَّة وبقيَتْ بَيْنَ فرٍّ وكرٍّ لِتشيَ بواقع هُلامي للمشروع العربي الوجودي، والَّذي تجسِّد آخره في الصَّمت المخزي تجاه الإبادة الإنسانيَّة للأطفال والنِّساء والحياة في قطعة أرض لا تتجاوز (360 كم2) أُمطرتْ بعشرات الأطنان من أدوات القتل والتَّدمير والإبادة الَّتي لم يشهدها التَّاريخ البَشَري الحديث، فكان موقف عُمان الإنسانيَّة والمسؤوليَّة واضحًا جليًّا بأنَّ الإنسان الغزّاوي يُباد والصَّمت العربي والعالَمي هو مخزٍ وتلك جريمة فاضحة مخزية في جَبِين البَشَريَّة لن تُنسى، وقد كسبتْ عُمان رهانها بموقفها الحازم رغم كُلِّ الضُّغوطات العربيَّة والأجنبيَّة.

- كثير من الصّحف الصَّفراء وبعض أشباه الإعلاميِّين كانوا يترقبون ردَّات الفعل العُماني تجاه الهجمة المستعرة في الفترة الأخيرة على الموقف العُماني الواضح والصَّريح والجريء في مناصرة القضيَّة الفلسطينيَّة، والدَّعوة لإنصافِ الإنسان في قِطاع غزَّة بحقِّه في الحياة الكريمة ووقف حمَّام الدَّم وآلة الموت الصهيونيَّة المستعرة، لها في ذلك مآرب واهية سمجة يقتاتُ على فتاتها زُمرة مراهقة من مرتزقة المواقف والمصالح، فهم يعرفون تاريخ هذا البلد العظيم ومواقفه السِّياديَّة الرَّصينة في الكثير من القضايا القوميَّة والعالَميَّة، فما جرَى تروجيه بأنَّه تعزيز لقِيَم العُنف وخلقِ جيلٍ متضلِّع بالكراهيَّة تجاه القوميَّات والأديان الأخرى في إشارة إلى اليهود ما هو إلَّا تكريس لسياسة التَّطبيع والانبطاح في القِيَم والثَّوابت بعدما أتعبتهم الفلسفة السِّياسيَّة والتَّربويَّة في القدرة على خلقِ جيلٍ يحمل في صدره حبَّ فلسطين وعروبتها وطيفها الدِّيني القويم، لقد آلمتهم صلاة الجمعة الَّتي ما فتئتْ تُذكِّر العالَم بحقِّ الحياة للفلسطينيِّين الَّذين أغرقوا أرضهم بدمائهم الزكيَّة وصلاة الغائب على أرواحهم الطَّاهرة في ظلِّ صمتٍ عربي مُخيف والخشية حتَّى من رفع أكفِّ الضَّراعة لله تعالى بأن ينصرَهم ويرحمَ شهداءهم، عُمان ليسَتْ بحاجةٍ لأن تُعلِّمها الصُّحف الصَّفراء، ولا أن يُقوِّمَ ويقِيِّمَ مواقفها صُغراء القلَمِ وتُجَّار المواقف؛ فإرثها التَّاريخي والحضاري الماجد والمشرِّف تجاه القضايا العربيَّة والإقليميَّة يُلجم الأفكار السَّمجة المَقيتة منطلِقةً في ذلك من مسؤوليَّتها الأخلاقيَّة والإنسانيَّة والتَّاريخيَّة، ولا تزال قابضة على موقفها ولسان حالها القابض على دِينه كالقابض على الجمر.

- في مستجدَّات دوَل المحيط (اليمني ـ الإيراني) والحراك الدراماتيكي المحموم والمدعوم من الكيان الصهيوني نَحْوَ تأجيج الصِّراعات البَيْنِيَّة والدّوليَّة في منطقنا العربيَّة كان ولا يزال الموقف العُماني منذُ انطلاق النَّهضة المباركة واستمرارًا بحُكم جلالة السُّلطان هيثم ثابتًا وحازمًا بأن لا تكُونَ أرض السَّلام والتَّفاهم والتَّكامل محطَّة عبور لأدوات القتل والتَّدمير والاستغلال العسكري، فجنّد الكثير من الصُّحف والأقلام الواهنة كبيتِ العنكبوت في محاولةٍ لضربِ السَّد العُماني المنيع والضَّغط عَلَيْه بشَيطنتِه وأنَّه في صفِّ الأشرار ضدَّ الخير، إلَّا أنَّ (لا) العُمانيَّة في استثمار الموت على أراضيها كانتْ قناعة وقرار القيادة والشَّعب والأرض، وقد كسبتْ عُمان هذا الرِّهان.

لقَدْ كانتْ عُمان عَبْرَ قِدم تاريخها وستبقَى تنثرُ عبير سلامها لأبنائها الَّذين ينتقون أطايب القول كما يُنتقى أطايب التَّمر، ولا تزال عُمان قِبلة القاصدين نَحْوَ تحقيق التَّفاهمات والوئام والوحدة الوطنيَّة، ولا تزال شمسها وأقمارها تضيء مَجد عبد وجيفر ابنَي الجلندى، ومازن بن غضوبة، والمهلَّب بن أبي صفرة، والخليل بن أحمد الفراهيدي، ولا يزال قلبُها ينبض أرجوزة خالدة: «لو أنَّ أهْلَ عُمان أتَيْتَ ما سبّوك ولا ضربوك»، فكُلُّ عامٍ وعُمان سُلطانًا وشَعبًا وأرضًا بكُلِّ خيرٍ وسعادةٍ وتقدُّم.

د. سلطان بن خميس الخروصي

كاتب عماني

[email protected]