الأربعاء 15 يناير 2025 م - 15 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

المجتمع ومأزق تكرار الأخطاء فـي توجيهات التغذية!

المجتمع ومأزق تكرار الأخطاء فـي توجيهات التغذية!
الاثنين - 13 يناير 2025 02:08 م

د. يوسف بن علي الملَّا

20


يعي الجميع أنَّه في عالَم التَّغذية، قلَّما توجد كلمة أكثر إثارة للجدل من كلمة (الصحِّي). إذ يتجادل الخبراء والمؤثِّرون على الدوام حَوْلَ ما إذا كانتِ الدهون تشكِّل خطرًا على القلب، وما إذا كانتِ النشويَّات مفيدةً أو ضارة للخصر، بل ومقدار البروتين الَّذي يحتاجه الإنسان فعلًا! ولكن إذا كان تحديد الأطعمة الصحيَّة أمرًا ليس بالهيِّن دائمًا، فإنَّ تناولَها ـ بلا شك ـ يُعَدُّ مُهِمَّة أشدَّ صعوبة وتعقيدًا!

لذلك وفي ظلِّ التَّحدِّيات المتزايدة لتحسينِ الأنماط الغذائيَّة في المُجتمع، تأتي الحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم (الصحِّي) بطريقة تُسهم في توعية الأفراد وتعزيز خياراتهم الغذائيَّة. فعلى سبيل المثال، أصبح من الضروري تسليط الضَّوء على كيفيَّة تأثير مُكوِّنات المنتجات الغذائيَّة مِثل النشويَّات والدهون على الصحَّة العامَّة، خصوصًا مع انتشار أمراض العصر كالسّمنة والسكَّري، خصوصًا وأنَّ تعليم المستهلكين كيفيَّة قراءة وفَهْمِ ملصقات المنتجات الغذائيَّة يُمكِن أن يكُونَ خطوةً جوهريَّة لتعزيز الصحَّة العامَّة.

وهنا قد يبدو أنَّ تزويدَ المستهلكين بمزيدٍ من المعلومات حَوْلَ ما يتناولونه من طعام هو خطوة بديهيَّة لا غبار عَلَيْها، ولكن عِندَما يتمُّ تطبيق مِثل هذه السِّياسات في الواقع، غالبًا ما تكُونُ النَّتائج أقلَّ تأثيرًا على تحسين العادات الغذائيَّة. ما أوَدُّ قولَه هنا حقيقة: إنَّ المخاوف الصحيَّة ليسَتِ الأولويَّة الوحيدة الَّتي يضعها المستهلكون في اعتبارهم عِندَ اتِّخاذ قرار شراء الأطعمة. فعِندَما يختار النَّاس طعامهم، فإنَّ السِّعر والطَّعم والرَّاحة تكُونُ عوامل أكثر تأثيرًا من الصحَّة!

ورُبَّما سنلاحظ في أسواقنا، توجُّه المستهلكين نَحْوَ الأطعمة المستوردة والمعلَّبة، بَيْنَما يواجِه الإنتاج المحلِّي من الخضراوات والفواكه تحدِّيات في تلبية احتياجات السكَّان بأسعار معقولة. فعلى سبيل المثال، تجد بعض الأُسر صعوبةً في توفير ميزانيَّة تكفي لشراء الخيارات الصحيَّة، ممَّا يدفعها للاعتماد على الأطعمة الأقلِّ تكلفة، لكنَّها ذات قِيمة غذائيَّة منخفضة. هذا الواقع يُبرز أهميَّة تَبنِّي سياسات تدعم الزِّراعة المحليَّة، مِثل دعم زراعة الخضراوات والفواكه الطَّازجة، وتشجيع المزارعين على توفير منتجات بأسعار تنافسيَّة ـ إن صحَّ لي القول ـ.

من ناحية أخرى، ندركُ بأنَّ التَّثقيفَ الغذائي يُمثِّل أيضًا عنصرًا حيويًّا في تحسين العادات الغذائيَّة. وعلى الرَّغم من وجود حملات توعويَّة متفرقة، إلَّا أنَّ تأثيرَها يظلُّ محدودًا بسبب افتقارها إلى الاستمراريَّة أو الوصول الفعَّال إلى جميع الفئات. فعلى سبيل المثال، قد تنظِّم المدارس نشاطًا مؤقتًا عن التَّغذية الصحيَّة، ولكن دُونَ إدراج هذا الموضوع بشكلٍ دائم في المناهج الدراسيَّة أو تقديمه بطريقة تفاعليَّة تشدُّ انتباه الطلَّاب. الأمْرُ نَفْسه ينطبق على وسائل الإعلام، الَّتي يُمكِن أن تؤديَ دَوْرًا أكبر في تقديم برامج توعويَّة مبتكرة تستعرض قصص نجاح لأفراد تغيَّرت حياتهم بفضل تَبنِّيهم أنماطًا غذائيَّة صحيَّة.

مع ذلك، لا ننسى أيضًا بأنَّ التَّغييرَ يبدأ من الأفراد، إذ يَجِبُ تعزيز الوعي بأنَّ الخيارات اليوميَّة الصَّغيرة يُمكِن أن تصنعَ فرقًا كبيرًا. فمثلًا، اختيار شطيرة مصنوعة من خبز القمح الكامل مع الخضراوات الطَّازجة بدلًا من الوجبات السَّريعة يُمكِن أن يكُونَ خطوة بسيطة لكنَّها فعَّالة نَحْوَ حياة أكثر صحَّة. كما أنَّ ممارسة النَّشاط البَدَني، ولو كان المشي يوميًّا لمدَّة نصف ساعة، يُسهم في تحسين الصحَّة العامَّة ويُعزِّز العادات الإيجابيَّة.

ختامًا، تُعَدُّ التَّغذية الصحيَّة مفتاحًا أساسيًّا لبناء مُجتمع قوي ومزدهر، فهي ليسَتْ ترفًا، بل حقٌّ لكُلِّ فردٍ، ومسؤوليَّة جماعيَّة تقع على عاتق الجميع. بل وبتكاتف الجهود بَيْنَ الحكومة والمُجتمع، وبَيْنَ الفرد وأُسرته، يُمكِن لسلطنة عُمان أن تحقِّقَ نقلةً نوعيَّة نَحْوَ تحسين صحَّة مواطنيها وتعزيز جودة حياتهم. ولْنتذكَّرْ دومًا أنَّ الصحَّة تاجٌ على رؤوس الأصحَّاء لا يراه إلَّا المَرْضَى، فلا تجعلوا هذا التَّاج ينتزع بسبب اختيارات غذائيَّة خاطئة. وعَلَيْه، دعونا نجعل من مائدة الطَّعام منصَّة للوعي، ومن كُلِّ وجبة فرصة لبناء مستقبل مشرق، حيث لا يكُونُ الغذاء مجرَّد طعام نتناوله، بل استثمار في صحَّتنا وحياتنا ومستقبلنا.

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]