.. وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانَه عن قومه القبط (أي: المصريين)، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون:(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر ـ 26)، فأخذتِ الرجلَ غَضْبَةٌ لله عزّوجل، كما ورد ذلك في تفسير (ابن كثير.(
فهو رجل من رجالات الدولة الكبار بـ(مفهومنا العصري)، لم يذكر القرآن الكريم الكريم اسمَه؛ لأن اسمه لا يَهُمُّ، ولم يذكر صفتَه أيضًا؛ لأن صفته لا تعني شيئًا، إنما ذكر القرآن أنه (رجلٌ مؤمنٌ)، فذكره بالنعت الأكبر الذي لا قيمة لأيِّ نعتٍ آخر بعده، وبجانبه، وقد تحدَّث هذا الرجلُ المؤمنُ ـ وكان (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) ـ في الاجتماع الذي طُرِحَتْ فيه فكرةُ قتلِ مُوسَى ـ عليه السلام ـ وأثبت عُقْمَ تلك الفكرة، وسطحيتها، قال: إنَّ موسى لم يقل أكثرَ من أن اللهَ ربُّه، وجاء بعد ذلك بالأدلة الواضحة على كونه رسولًا، وهناك احتمالان لا ثالث لهما: أن يكون موسى كاذبًا، أو أن يكون صادقا، فإذا كان كاذبًا (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)، وهو لم يقلْ، ولم يفعلْ ما يستوجب قتلَه، وإذا كان صادقًا، وقتلناه، فما هو الضمان من نجاتِنا من العذاب الذي يَعِدُنا به؟!. حديث واع متوازن، ثم واصل المؤمن حديثه، فقال لقومه: إننا اليومَ في مراكزِ الحكم، وسلطة القوة، فمن ينصرنا من بأس الله إذا جاءنا؟!، ومَنْ ينقذنا من عقوبته إذا حَلَّتْ بنا، إن إسرافَنا، وكذبَنا قد يضيعانِنا، وبدتْ كلماتُه تلك مقنعةً، فهو رجلٌ عاقلٌ، حكيمٌ، واعٍ، ومتوازن، يتكلم بكلِّ منطقية، وعقلانية، وليس مُتَّهَمًا في ولائه لفرعونَ، وهو ليس من أتباع موسى، حتى يُشَكَّ فيه، أو يُتَرَدَّدَ في سماعه، والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على عرشِ فرعون، ولا شيءَ يسقط العروشَ كالكذب، والإسرافِ، وقتلِ الأبرياءِ.
ومن هذا الموضع، والقوة استمدَّتْ كلماتُ الرجلِ المؤمنِ قوتَها، ورغم أن فرعونَ وجد فكرتَه في قتل موسى صريعةً على مائدة النقاش والجدال، ورغم تخويفِ الرجل المؤمن لفرعون، رغم ذلك قال فرعون كلمته التاريخية التي ذهبتْ مثلا بعده لكل الطغاة:(قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
فهذه كلمة الطغاة دائمًا حين يواجهون شعوبهم:(مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى)، كأنه يقول: هذا رأينا الخاص، وهو رأيٌ يهديكم سبيل الرشاد، وكلُّ رأيٍ غيرِه خاطئٌ، وينبغي الوقوف ضدَّه، واستئصاله، وعدم الرضوخ إليه، ويمضي رأيي أنا، فهو حقيقة الهداية، وهو صوب الصواب، و{ايي لابد أن يمضي، ويشق طريقه إلى التنفيذ.
لم تتوقف المناقشة منه عند هذا الحد، فقد قال فرعون كلمتَه، ولكنه لم يقنعْ بها هذا الرجلَ المؤمنَ، وعاد الرجلُ المؤمنُ ليتحدث ثانيةً، ويُحْضِرَ لهم أدلة دامغة من التاريخ، فقد أحضر، واستدعى أدلةً كافيةً على صدق سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ وحذّرهم من المساسِ به، فلقد سبقتْهم أممٌ كَفَرَتْ برسلها، فأهلكها اللهُ، مثـل قـومِ نوحٍ، و قـومِ عادٍ، و قـوم ثمود، ثم ذكّرهم بتاريخ مصر نفسِه، حيث ذكّرهم بيـوسف ـ عليه السلام ـ حين جاءهم بالبينات، فشكَّ فيه الناسُ، ثم آمنُوا به بعد أن كادتِ النجاةُ تفلتُ منهم، فما الغرابة في إرسال الله للرسل؟، إن التاريخ القديم ينبغي أن يكونَ موضعَ نظرٍ، ودراسة، وأخذ الدروس منه، لقد انتصرتِ القلةُ المؤمنةُ حين أصبحتْ مؤمنةً على الكثرة الكافرة التي أمست كافرة، وسحق الله تعالى الكافرينَ، فمرة أغرقهم بالطوفان، ومرة صعقهم بالصرخة، وثالثة خسف بهم الأرض، فماذا ننتظر نحن إذن؟، ومن أين نعلمُ أن وقوفَنا وراءَ فرعون لن يضيعَنا، ويهلكَنا جميعًا، كان حديث الرجل المؤمن ينطوي على عديدٍ من التحذيرات المخيفة، المفزِعة، ويبدو أنه قد أقنع جميع الحاضرين بأن فكرة قتل موسى هي فكرة غير مأمونة العواقب؛ ومن ثم فلا داعي لها، فهي لها نتائج غير محمودة، والتاريخ ووقائعه خير شاهد على ذلك.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية