يقولُ المَثل العامِّي «من فات قديمه تاه»، ورغم التَّبسيط الشَّديد في المَثل، إلَّا أنَّه بمثابة حكمة جمعيَّة للبَشَر. لذا فإنَّ دراسة التَّاريخ ليسَتْ فقط لحفظِ ذاكرة البَشَريَّة ولا حتَّى استخلاص العِبر والدُّروس، وإنَّما أيضًا هي ضرورة لِفَهمِ الحاضر والقدرة على استشراف المستقبل، والعمل على التَّطوُّر نَحْوَ الأفضل. ولأنَّ التَّاريخ، مِثله مِثل بقيَّة العلوم الإنسانيَّة، لا يتَّسم بالدقَّة في كُلِّ الأحوال ويتميَّز بنسبيَّة شديدة فإنَّ مراجعة التَّاريخ ضروريَّة، خصوصًا من قِبل الأكاديميِّين المؤهَّلين. والمراجعة إنَّما تعني النَّظر بشكلٍ نقدي إلى مسار أحداث في الماضي نقلتْ إِلَيْنا بسرديَّة مُعيَّنة ومحاولة تمحيص التَّاريخ وتدقيقه بما يساعد على تفسير الحاضر والاستعداد للمستقبل. وكعادة الأكاديميِّين في دراساتهم يضعون الأسئلة ويحاولون الإجابة عَنْها. ومهما كانتِ الأسئلة افتراضيَّة فإنَّها في حالة العلوم الإنسانيَّة مقبولة ومنطقيَّة؛ لأنَّها السَّبيل للتَّدقيق والجدل المُفيد.
في ظلِّ ما تشهدُه منطقتُنا حاليًّا من توسُّع عدواني من قِبل الاحتلال «الإسرائيلي» في فلسطين امتدَّ إلى دوَل الجوار كلبنان وغيره، وما تمرُّ به دوَل أُخرى كثيرة في المنطقة من تطوُّرات لا يكُونُ من التَّرف الفِكري العودة إلى جذور تلك المُشْكلات منذُ النِّصف الأوَّل من القرن الماضي وما تلاه من استقلال دوَل المنطقة عن الامبراطوريَّات الاستعماريَّة الأوروبيَّة السَّابقة. في هذا السِّياق أصدَر أحَد أبرز الأكاديميِّين وهو الدكتور فواز جرجس كِتابه الأخير «أين الخطأ: الغرب وفشل الديموقراطيَّة في الشَّرق الأوسط». مع أنَّ الكاتب يطرح سؤالًا افتراضيًّا إلَّا أنَّه يُقدِّم إضاءة غير مسبوقة على فترة مهمَّة من تاريخ تطوُّر دَولة ما بعد الاستقلال ودَوْر أميركا والغرب في إفشالها. يختار الكاتب نموذجَيْنِ في غاية الأهميَّة هُمَا حُكم مصدّق في إيران وحُكم عبد الناصر في مصر، والسُّؤال الَّذي يحاول الكِتاب الإجابة عَنْه هو: ماذا لو لم يحاربِ الغربُ القيادتَيْنِ وتوجُّههما الوطني؟ وكيف أنَّ ذلك الخطأ أدَّى إلى ما نحن فيه الآن؟ صحيح أنَّ محاربة الغرب لأيِّ محاولة لبناء دَولة مُستقلَّة على أرضيَّة وطنيَّة/قوميَّة في منطقتنا يَعُودُ إلى أيَّام الامبراطوريَّات الاستعماريَّة الأوروبيَّة، من العثمانيَّة إلى البريطانيَّة والفرنسيَّة وغيرهما وكُلُّهم معًا، إلَّا أنَّ ما حدَث بعد الحرب العالَميَّة الثَّانية جذر ما وصلنا إِلَيْه حاليًّا.
مع تدبير المخابرات الأميركيَّة والغربيَّة الانقلاب على حكومة مصدّق ومحاربة حُكم عبد الناصر بشتَّى السُّبل بدأتِ الامبراطوريَّة الأميركيَّة الصَّاعدة ما بعد الحرب العالَميَّة الثَّانية تولي إرث الامبراطوريَّات الاستعماريَّة الأوروبيَّة المنهارة. وعلى المنوال نَفْسِه الَّذي اشتهرَ به الاستعمار البريطاني «فرِّقْ تَسُد»، دعمتْ أميركا وحلفاؤها التيَّارات والقوى «الرجعيَّة» في المنطقة. والأخطر أنَّها شجَّعتْ بروز ما أصبح يُعرف بتيَّار «الإسلام السِّياسي» ممثلًا بالإخوان وغيرهم من الجماعات الأصوليَّة. بخبرته المتراكمة على مدَى عُقُود من البحث والتَّدريس الأكاديمي يقدِّم فواز جرجس في كِتابه تحليلًا مفيدًا جدًّا لكُلِّ مَن يُريد فَهْمَ الحاضر واستشراف المستقبل، والعمل على أن يكُونَ أفضل. مع أنَّ للدكتور فواز كتُبًا كثيرة مُهمَّة، سواء عن الإسلام السِّياسي أو السِّياسة الخارجيَّة الأميركيَّة في الشَّرق الأوسط، إلَّا أنَّ هذا الكِتاب يكتسبُ أهميَّة، خصوصًا بما يطرحه من نقاش حَوْلَ مراجعة تاريخ فترة مفصليَّة في مثار المنطقة. رُبَّما كأكاديمي ومفكِّر يستهدف إثارة نقاش حَوْلَ السِّرِّيَّة السَّائدة عن تركِ الفترة في مراجعة نقديَّة تفتحُ باب الجدل، لكنَّ الكِتابَ يكتسبُ أهميَّة لكُلِّ مَن هو مهتمٌّ بالوضعِ العامِّ، ويسعَى لتحسينِه وتطويره. تُمثِّل المُراجعة التَّاريخيَّة الَّتي يطرحها أستاذ العلاقات الدّوليَّة في جامعة لندن عودة للأُصول التَّقليديَّة لمراكز دعمِ صنَّاع السِّياسات ومتَّخذي القرار، كما كان دائمًا دَوْر مؤسَّسات الفِكر والبحثِ المُساندة في إدارة الدوَل. ولأنَّ ذلك الدَّوْر في تراجُع للأسف في السَّنوات الأخيرة، يُعَدُّ كِتاب فواز جرجس نقطةً مضيئة في هذا الإطار.
تشمل مراجعة التَّاريخ ضمنًا إعادة تقييم المواقف الَّتي بُنيَت على أفكار لا تصمدُ أمام التَّمحيص والتَّدقيق. وأهميَّة ذلك في النِّقاش حَوْلَ الوطنيَّة/القوميَّة مقابل اليمينيَّة المتطرِّفة والأُصوليَّة أنَّ الوضعَ الحالي في المنطقة والعالَم يَعُودُ إلى مسار اليمين المتطرِّف والإرهاب المتسربل بالدِّين والأفكار الأُصوليَّة العنصريَّة. لذا أتصوَّر أنَّ المراجعة يتعيَّن عَلَيْها أن تشملَ أيضًا تلك النَّظريَّات والدِّراسات الَّتي أسْهمَتْ في تأطير توَجُّه الغرب لدعمِ الإسلام السِّياسي، وقد أسْهَم فيها عددٌ لا بأسَ به من الأكاديميِّين والمفكِّرين في أميركا وأوروبا قَبل الكُتَّاب من منطقتنا. وكانتْ لسرديَّات هؤلاء فائدة للتَّنفيذيِّين من السَّاسة وصنَّاع القرار وحتَّى أجهزة المخابرات الَّتي دعمتْ ودرَّبتْ وأشرفَتْ على بروز جماعات أُصوليَّة في المنطقة بتمويلٍ من حلفاء أميركا والغرب، وانتهى بها الأمْرُ عامل تدمير لفِكرة الدَّولة وتخريب لكُلِّ منجزات ما بعد الاستقلال. ولْننظُر حَوْلَنا من سوريا والعراق إلى ليبيا والسُّودان، مرورًا ببؤر أقلّ سخونةً، لكنَّها تعاني أيضًا من سياسات أميركا والغرب الَّتي شجَّعتِ التَّطرُّف والأُصوليَّة لمواجهةِ التيَّارات الوطنيَّة الاستقلاليَّة. رُبَّما يكُونُ من السَّهل نظريًّا مراجعة التَّاريخ واستخلاص الدّروس والعِبر للاستفادة في التَّعامل مع الواقع ومحاولة بناء المستقبل. لكن عمليًّا عَلَيْنا مواجهة نتائج تلك السِّياسات الَّتي اتَّبعها الغرب في المنطقة ومقاوَمة استمرار التَّبعيَّة والخروج من حالة القَبول بالسَّرديَّة الَّتي يفرضها الأقوى حتَّى لو كانتْ تضرُّ بِنا وبمصالحنا.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري