منظومة التَّشغيل السَّائدة تشكَّلتْ بداياتها مع انطلاق الثَّورة الصِّناعيَّة الأولى. فقَدْ أحدثتْ تلك الثَّورة تَحوُّلًا عميقًا في أساليب التَّشغيل فدفعتْ بالعمل الجماعي المنسَّق والمتسلسِل وابتكار خطوط الإنتاج وسلاسل التَّوريد وتعدُّد الخدمات. وقد تطلَّب هذا الأُسلوب وجود إدارات وتحديد مهمَّات وأدوار للعاملين مع تأكيد ودعم التَّخصُّصات المهاريَّة. ثمَّ تشكَّلت نُظُم الإدارة وعقود العمل الوظيفي المُحدَّد بتواقيت دوام ثابتة وبأعمال ذات رتابة عالية. وتشكَّلتْ نُظُم الإنتاج بتحويل مدخلات إلى منتجات ذات قِيمة أعلى من خلال عمليَّات التَّصنيع والإنتاج يكُونُ العامل مشاركًا أساسيًّا مباشرًا في العمليَّة الإنتاجيَّة. وذلك من خلال مهمَّات وأدوار مُحدَّدة تبدأ بالتَّصميم والابتكار والتَّحسين ثمَّ العمليَّة الإنتاجيَّة، سواء اليدويَّة أو الآليَّة وتنتهي بتسويق وإيصال المنتَج إلى المستفيد. وحيث إنَّ هذه النُّظم تتطلَّب استمراريَّة ورتابة (تكرارًا) فقَدْ كان التَّشغيل بدوامٍ ثابتٍ وتشاركي. وقد أحدَث ذلك تحوُّلًا كبيرًا في منظومة التَّشغيل من عمل حِرفي ومِهني حُر (حسب الطَّلب والحاجة) إلى عمل وظيفي منظَّم وثابت. استوعبتْ هذه المنظومة أعدادًا كبيرة من العاملين المَهَرة وغير المَهَرة بقدرات وإمكانات مختلفة وصهرتهم في تكامل وحركة جماعيَّة منسَّقة ومنضبطة. وقد أوجدتْ هذه النُّظم منافع كثيرة للعاملين أهمُّها تطوير وتقوية مهاراتهم، وكذلك إيجاد دخل (راتب) ثابت بزيادات مُحدَّدة بمرور الزَّمن وباكتساب خبرات وإنماء قدرات. وقدَّمتْ هذه النُّظم استقرارًا معيشيًّا جيِّدًا للعامل ومَن يَعُول. غير أنَّ التَّحوُّلاتِ الكُبرى في البنية الاقتصاديَّة والمُتغيِّرات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والتَّطوُّرات التقنيَّة أثَّرتْ بشكلٍ مباشر على ذلك الاستقرار المعيشي المبني على الضَّمان الوظيفي واستدامة تلك المنافع ونمائها. ولعلَّ المُتغيِّرات في القِطاع الصِّناعي والإنتاجي بازدياد اعتماده على التقنيَّة والأتمتة عوضًا عن العمل البَشَري اليدوي من أكثر الأسباب لفقدانِ الكثيرين لوظائفهم وارتفاع نِسَب البطالة في كثير من الدوَل الصِّناعيَّة إضافةً إلى تَحوُّل كثير من المصنِّعين والمنتِجِين إلى دوَل ذات أيدٍ عاملة أقلّ تكلفة كوسيلة للبقاء في عالَم تنافسي شرس. وقد شهدتِ العُقود الأخيرة تَحوُّلًا لافتًا إلى قِطاع الخدمات والَّذي تتطلب بادئ الأمْرِ قوى عاملة بَشَريَّة لتقديمِ هذه الخدمات ممَّا أوجدَ فرص تشغيل واسعة ومتنوِّعة في مجالات التَّنظيم والضِّيافة والسَّفر والتَّعليم والتَّرفيه وغير ذلك. غير أنَّ كثيرًا من الأعمال والخدمات الَّتي كانتْ تؤدِّيها القوى العاملة البَشَريَّة استبدلتْ بأخرى أكثر كفاءة ودقَّة ومرونة تنجزُ بالحواسيب وتقنيَّات الذَّكاء الاصطناعي وتطبيقات الهواتف الذكيَّة وغيرها من التقنيَّات المتقدِّمة. وقد أوجدَ هذا تَحوُّلًا من الوظائف التَّقليديَّة والثَّابتة إلى أعمال ومهمَّات وأدوار متغيِّرة تتطلَّب جدارات تقنيَّة عالية وأساليب عمل مبتكرة ومَرِنة ممَّا نتَج عَنْه فقدانُ الكثيرين لوظائفهم الثَّابتة والضَّمان الوظيفي المعتمِدِين عَلَيْه في اكتساب معايشهم.
وفي ظلِّ تَحوُّلات كُبرى على كُلِّ الصُّعد فإنَّنا نقفُ اليوم على أعتاب مرحلة جديدة في الحضارة الإنسانيَّة أشبَه بتلك الَّتي أحدثَتْها الثَّورة الصِّناعيَّة الأُولى ورُبَّما أعمق. المرحلة الجديدة أو كما تُعرف بالثَّورة الصِّناعيَّة الرَّابعة أو الخامسة أحدَثتْ تَحوُّلًا جذريًّا ـ وإن بدرجات متفاوتة ـ في جُل مناحي الحياة ونُظمها الاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة، والتقنيَّة. في حين بدأتْ تظهر هذه التَّحوُّلات في مجالات مختلفة، إلَّا أنَّ منظومةَ التَّشغيل شهدتْ تغيُّرات محدودة وليسَتْ بالقدر الكافي والفعَّال. بطء التَّحوُّل فاقم تحدِّيات التَّشغيل وأضعفَ القدرة على استيعاب القوى العاملة المتزايدة والمختلفة عن سابقاتها. ولعلَّ ظاهرة التَّسريح من العمل المتزايدة مؤخرًا مِثال على عدم قدرة منظومة التَّشغيل على التَّعاطي الفعَّال مع المتغيِّرات والتَّحوُّلات الحتميَّة والمُتسارعة. من هذه المتغيِّرات ازدياد حالات التَّسريح من العمل، وهو ما يعارض مفهوم الضَّمان الوظيفي المعتمد على ثبات الوظائف واستمرار العاملين بها كحقٍّ ثابتٍ لا يصحُّ المساس به. وبقدر أهميَّة ومحوريَّة ضمان توافر فرص عمل وتشغيل في نُظُم التَّشغيل المعاصرة وكركيزة أساسيَّة لأداء الدَّولة واجباتها تجاه مواطنيها، إلَّا أنَّ التَّحوُّلات الكُبرى قد دفعتْ بتلاشي الضَّمان الوظيفي بمفهومه التَّقليدي وهو استمرار التَّشغيل في نَفْس الوظيفة والفرصة التَّشغيليَّة. هذا المفهوم لم يستوعبْ متغيِّرات كثيرة ملحَّة من مِثل التَّأثير المباشر لقوى السُّوق (العَرض والطَّلب والعمليَّة الإنتاجيَّة) على منظومة التَّشغيل، إضافةً إلى عدم قدرة القِطاع العامِّ على استيعاب الأعداد المتزايدة من القوى العاملة الجديدة نظرًا للحاجةِ الماسَّة لترشيدِ مهمَّات وأدوار القِطاع العامِّ ولتعظيمِ الاستفادة من القدرات الوطنيَّة لبناء وتنمية اقتصاد وطني تنافسي، ومتطوِّر، ومنتِج. إنَّ هذه المتغيِّرات تدعو إلى تطوير مفهومٍ جديد للضَّمان الوظيفي مبني على تطوير القدرات الفرديَّة وبناء الخبرات المطلوبة بقوَّة وتنافسيَّة في ميادين العمل الحديثة.
ونظرًا لإدراك الدَّولة بكُلِّ مُكوِّناتها أهميَّة ومحوريَّة قضيَّة التَّشغيل فقد نُظِّم كثير من المشاغل (جمع مشغل) ونُفِّذت العديد من البرامج والمبادرات لمعالجة هذه القضيَّة وبُذلتْ جهود كبيرة لإيجاد حلول وتطوير مقاربات لعلَّها تُحدث نقلات تطويريَّة نَوعيَّة تجويديَّة. ومن هذا المنطلق تأتي الدَّعوة لإعادة صياغة منظومة التَّشغيل كمساهمة في هذا الحراك وهذه الجهود. إعادة الصِّياغة تتطلب القيام بنقلات كُبرى، وإعادة رسمٍ للمشهد التَّشغيلي، والافتكاك من التَّأطير المُحدَّد، وكسر حواجز التحفُّظ، والحذر من مناقشة جوانب وُسِمَتْ بأنَّها راسخة وضرورة لا يجوز مراجعتها.
إعادة صياغة منظومة التَّشغيل تتطلب أوَّلًا النَّظر إلى قِطاع التَّشغيل كمنظومةٍ متكاملة ومترابطة وليس فقط مهمَّات مُحدَّدة باتِّباع إجراءات تنظيميَّة خطيَّة متسلسلة. ثمَّ تحديد عناصر المنظومة وملامحها والمتغيِّر مِنْها لإعادة تشكيل وهندسة المنظومة الجديدة. بعض المتغيِّرات والتَّطوُّرات المؤثِّرة والمُهمِّ مراجعتها وتقييمها وتحديثها لتحديدِ ملامح منظومة التَّشغيل الجديدة وطرائق العمل المستقبليَّة هي:
- التَّحوُّل من الأعمال اليدويَّة متدنِّية المهارة إلى الأعمال الآليَّة والحاسوبيَّة عالية المهارة.
- اختلاف سِمات العامل العُماني واعتباراته الاجتماعيَّة والمعيشيَّة عن نظيره الوافد وبالأخصِّ الآسيوي.
- تغيُّر في سِمات ونزعات وأساليب عمل الأجيال الجديدة.
- تحوُّل في نَوعيَّة الأعمال والوظائف من الإنتاجيَّة الصِّناعيَّة والإنشائيَّة الصُّلبة إلى الأعمال التَّوجيهيَّة والخدميَّة والمعرفيَّة اللَّينة.
- قصرُ الدَّوْرات الزَّمنيَّة لنَوعيَّة المنتَجات والخدمات ولعقودِ الأعمال والتَّحوُّلات المتسارعة في نشوءِ وانتهاء وهيكلة ومجالات أعمال المؤسَّسات المُشغّلة.
- تداخل المسارات المهنيَّة والتَّخصُّصات وتكاملها وسهولة التنقُّل بَيْنَها وتسارع إعادة تكوين القدرات ومهارات العاملين.
الحلول الحذرة بخطوات صغيرة والَّتي تهدف إلى التَّحسين والتَّجويد المتدرِّج ـ وبِدُونِ إحداث نقلات كُبرى تُعِيد صياغة المنظومة ـ لن تقدِّمَ حلولًا مستدامة ولا شاملة ولا كافية. ومن سُنن الكون أنَّ لكُلِّ كائن وحضارة ومنظومة دَوْرة حياتيَّة زمنيَّة تبدأ بضَعف، ثمَّ تنمو وتقوى، وبعدَها تَضعف وتتلاشى. إدراك هذه المراحل وفهمها والتَّعامل معها يوجب المبادرة وتوجيه التَّحوُّل الحتمي والتَّخلِّي عن إضاعة الوقت والجهد في ترقيع منظومة بدأت مرحلة بِلاء ووهنٍ وضَعف. يَجِبُ تفكيك كثير ممَّا عُدَّ يومًا ما مُسلَّمات وضرورات أثبتَ الواقع أنَّها لم تَعُدْ كذلك. يَجِبُ إعادة صياغة كثير من المفاهيم والممارسات لِتواكبَ التَّطوُّر الحتمي للنَّشاط الإنساني وأدواره ومسؤوليَّاته.
د. سلطان بن سعيد الشيذاني
مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان
ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية