الأربعاء 08 يناير 2025 م - 8 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

فقدان الشغف: أزمة عصرية أم طبيعة بشرية؟

فقدان الشغف: أزمة عصرية أم طبيعة بشرية؟
إبراهيم بدوي
الاثنين - 06 يناير 2025 03:10 م

إبراهيم بدوي

10


منذُ نعومة أظافري، وأنا أسمع كثيرًا عن أزمة منتصف العمر الَّتي تترافق مع تغييرات بيولوجيَّة ونَفْسيَّة تُحدث تحوُّلًا في رؤية الإنسان للحياة. حين كنتُ شابًّا، بدا الأمْرُ مجرَّد فكرة بعيدة عن واقعي، لكنِّي كنتُ ألاحظ تغيُّرًا لِمَن أعرفهم في تلك السِّن، وإن كان تغيُّرًا بسيطًا، لكن الآن، وأنا في منتصف العمر، أجدُ أنَّ فقدان الشَّغف قد تسلَّل إلى تفاصيل حياتي تدريجيًّا، وكأنَّ الحياة فقدَتْ ألوانها الزَّاهية، هذه التَّجربة دفعتني للتَّساؤل: هل ما أعيشه مرتبط بطبائع النَّفْس البَشَريَّة الَّتي تُعيد تقييم أولويَّاتها؟ أم أنَّه نتيجة لضغوط الحياة العصريَّة الَّتي تستهلك طاقاتنا بشكلٍ غير مسبوق؟ خصوصًا وأنَّها ليسَتْ حالة فرديَّة فكثيرًا ممَّن أعرفهم، وقد تخطَّوا تلك المرحلة العمريَّة، يشعرون بفقدان تدريجي للشَّغف تجاه ما كانوا يحبونه أو يستمتعون به.

على الرَّغم من أنَّ هذه المرحلة قد كانت تُعَدُّ ذروة النُّضج والعطاء، لكنَّها باتَتْ لدَى البعض مليئة بالتَّساؤلات والإحباطات، وهو ما يفرض سؤالًا جوهريًّا: هل فقدان الشَّغف في الأربعين ظاهرة مرتبطة بضغط العصر الحديث؟ أم أنَّه جزء من طبيعة إنسانيَّة أزليَّة يُعاد اكتشافها مع التَّقدُّم في العمر؟ لقَدْ فرضتِ الحياة الحديثة إيقاعًا متسارعًا مليئًا بالضُّغوط، بَيْنَ ساعات العمل الطَّويلة، الالتزامات الأُسريَّة، والزَّخم التكنولوجي، حيث يجد الإنسان نَفْسه دائمًا في سباقٍ لإنجاز المزيد، هذه الحياة الَّتي تبدو مليئة بالفرص قد تكُونُ مُرهقة، فتعدُّد الخيارات والانغماس في وسائل التَّواصُل الاجتماعي يُعزِّز المقارنة مع الآخرين، ممَّا يجعل الشُّعور بالرِّضا شِبه مستحيل، كما أنَّ العصر الحديث قدَّم أيضًا فكرة النَّجاح المادِّي والمكانة الاجتماعيَّة كمعايير للسَّعادة، ما زادَ من إحباط أولئك الَّذين يشعُرون بأنَّهم لم يُحقِّقوا تلك المعايير. هذا الضَّغط المستمرُّ يُفقد الإنسان متعةَ البساطة، ويجعلُه حبيس دائرة مفرغةٍ من التوتُّر والتَّوقُّعات غير الواقعيَّة.

وبرغم هذه الحقائق يظلُّ هذا الشُّعور ليس وليد العصر الحديث فقط، فبحسب إريك إريكسون، أحَد أبرز عُلماء النَّفْس التَّنموي، فإنَّ منتصف العمر يتَّسم بمرحلة أسماها (الإنتاجيَّة مقابل الرُّكود)، ففي هذه المرحلة، يُعِيد الإنسان تقييم دَوْره في الحياة، إذا شعر الفرد بأنَّه يُسهم في بناء شيء ذي قِيمة، سواءً في العمل أو الأُسرة أو المُجتمع، فإنَّه يميل إلى الإنتاجيَّة والسَّعادة، أمَّا إذا شعرَ بالعكس، فقَدْ يقع في حالة ركود، وهي ما نُسمِّيه اليوم بفقدانِ الشَّغف، هذه التَّغيُّرات ليسَتْ جديدة، بل تعكس طبيعة إنسانيَّة أزليَّة، مع تقدُّم العمر، تتغيَّر الدَّوافع والأهداف، ويبدأ الإنسان في البحث عن معنى جديد لحياته.

وهكذا، يتداخل الضَّغط العصري مع طبائع النَّفْس لتفسيرِ فقدان الشَّغف في الأربعين. في الماضي، كانتْ أزمة منتصف العمر تُحل غالبًا من خلال تقبُّل الواقع البيولوجي والنَّفْسي الجديد، بَيْنَما زادتْ تعقيداتها اليوم بفعلِ تسارع وتيرة الحياة وزيادة المقارنات الاجتماعيَّة، رغم ذلك، فإنَّ الأربعين ليسَتْ نهاية، بل بداية مرحلة تتَّسم بالنُّضج والوعي العميق. هذا العمر الَّذي خصَّه الله بدعاء واستُخدم رمزًا للحكمة في قصص الأنبياء، وحتَّى لا تتحوَّل هذه السِّن إلى مأساة، عَلَيْنا البدء بالتَّحوُّل إلى مسارات جديدة تمنح الحياة معناها الحقيقي، وتُعِيد اكتشاف الشَّغف من منظورٍ أكثر عُمقًا.

إبراهيم بدوي

[email protected]