عِندَما أوقدَ الشَّابُّ التُّونسي «طارق الطيب محمد البوعزيزي» (ولد 1984)، النَّار في نَفْسه، منتحرًا بسببِ الفقرِ واليأسِ من حياة لم تمنحْه أبسطَ الحقوق الَّتي يستحقُّها أيُّ شابٍّ يتطلع إلى بناء مستقبل جيِّد من نَوْع ما، فإنَّه قد جسَّد «أزمة الشَّبيبة العربيَّة» بأحلى صوَرِها، تلك الأزمة الَّتي تتمایز درجاتها شدَّة من دَولة عربيَّة إلى أُخرى: إذ إنَّها تزداد حدَّة في الدوَل العربيَّة، غير النِّفطيَّة، بَيْنَما تنخفض حدَّتها في الدوَل العربيَّة الميسورة، خصوصًا تلك الَّتي تستفيدُ من وُفُوراتِ البترو دولار لمعالجةِ مشاكلَ من النَّوْع أعلاه، أو للتَّخفيف من وطأتِها على النَّشء والشَّباب !
لقَدْ أُتيحتْ لكاتبِ هذه المقالة العديد من المناسبات الَّتي أتاحتِ استنطاقَ عددٍ كبير من الشَّابَّات والشبَّان العرب الَّذين ما فتئوا يبحثون عن السُّبل لهجرةِ بُلدانهم؛ بحثًا عن فرص العمل والرَّفاه والسَّعادة الَّتي يتخيَّلون أنَّهم سيحظون بها بعدما يهجرون البُلدان الَّتي وُلِدوا فيها من أجْلِ الوصول إلى إحدى الدوَل الغربيَّة (الفردوس الغربي المزعوم)، وهي حال مؤسفة تشمل أغْلَبَ دوَلِنا الواقعة في حوض البحر المُتوسِّط، خصوصًا دوَل شمال إفريقيا، إذ تُعدُّ «القفزة» عَبْرَ المتوسِّط شمالًا إلى إسبانيا والبرتغال أو إيطاليا أو جزيرة قبرص الواقعة جنوب اليونان (على مقربةٍ كذلك من إيطاليا)، أقول تُعَدُّ تلك القفزة «فرصة العمر» للخلاص بالذَّات من آفاتِ الفقرِ والبطالة الَّتي تنتظرهم في بُلدان ولادتهم!
أمَّا مغامرة شابٍّ عربي ثانٍ بالاختباء في قمرة عجلات طائرةٍ تجاريَّة متَّجهة إلى إحدى الدوَل الأوروبيَّة، فإنَّها مغامرة لا بُدَّ أن تلفتَ انتباهَ أُولي الأمْرِ إلى قسوةِ أزمةِ الشَّباب العربي الَّذي ما عادَ يطيقُ البقاءَ مع أهْلِه وخلَّانه؛ بحثًا عن أهلٍ وخلَّان جُدُد عَبْرَ التَّسكُّع في شوارع المُدُن الغربيَّة (الأوروبيَّة على نَحْوٍ خاصٍّ).
وهنا، لا ينبغي أن نُنحيَ باللَّائمة على هؤلاء الشبَّان المغامِرِين فقط، لأنَّ أزماتهم ليسَتْ من صنعِهم في أحيانٍ كثيرة: وإنَّما هي من صنع بعض الحكومات الَّتي فضَّلتِ العمل بعيدًا عن العناية بالنَّشء والشَّباب داخل دوَلهم ومُجتمعاتهم، فكانتِ النَّتيجة هي هذه: صوَر غرقِ قوارب تهريب البَشَر والاتجار بالبَشَر الَّتي تغرقُ في البحر بِمَنْ فيها من الحالِمِين بحياة وعالَم جديد خارج حدود وطنه.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي