بوفاةِ السُّلطان جمشيد بن عبدالله مساء الاثنين المُوافِق الـ(30) من ديسمبر 2024م ـ وهو آخر سُلطان عُماني حكَم زنجبار حتَّى عام 1964م ـ أعادَ إلى الذَّاكرة العربيَّة تاريخ وحضارة دَولة عربيَّة عُمانيَّة كانتْ تُسيطر على جزء من إفريقيا لعدَّةِ قرونٍ. وهنا يقول المؤرِّخ الأمير شكيب أرسلان في كِتابه (حاضر العالَم الإسلامي): «إنَّ العربَ العُمانيِّين قد تملَّكوا الجزر والسَّواحل في شرق إفريقيا، كانتْ زنجبار تخضع لسلطنة عُمان، سواء في عهدِ السَّلاطين اليعاربة أو سلاطين آل بوسعيد. وكانت السُّلطة العُمانيَّة تمتدُّ إلى مومباسا وماليندي ومقديشو وأسمرة وبعض المُدُن في وسط إفريقيا وقد ظلَّتْ سيطرةُ العُمانيِّين على زنجبار وساحل شرق إفريقيا حوالي ألفِ عامٍ ولم تنقطعِ السَّيطرة العُمانيَّة عن تلك المناطق إلَّا لفتراتٍ قصيرة؛ بسبب رحلات الاستكشاف البرتغاليَّة الَّتي أعقبَها الاستعمار البرتغالي الَّذي سيطرَ على زنجبار عام 1503م وبقِيَتْ في أيديهم إلى أن طردَهم الإمام سُلطان بن سيف اليعربي من عُمان بعد معركة مسقط عام 1650م، ليستمرَّ الإمام العُماني وخلفُه الإمام سيف بن سُلطان (قَيْد الأرض) في ملاحقة البرتغاليِّين على طول ساحل شرق إفريقيا وتمكَّن الأسطول العُماني من طرد البرتغاليِّين من سواحل شرق إفريقيا وباتتْ زنجبار تحت سيطرة العُمانيِّين بالكامل عام 1696م ومومباسا في كينيا وصولًا إلى موزمبيق لاحقًا .
حاولَ البرتغاليون استعادةَ مراكزهم البحريَّة الضَّائعة وقاموا بهجومٍ موَحَّد على زنجبار ومسقط في آنٍ واحد عام 1729م لكنَّهم أُصيبوا بهزيمةٍ منكرة، وبذلك انهارتْ آمال البرتغال في استعادة سيادتها على الخليج والمحيط الهندي، فامتدَّ نفوذُ عُمان من جنوب الجزيرة العربيَّة وسواحل شرق إفريقيا في الغرب إلى سواحل وادي السِّند في الشَّرق. كما امتدَّ نفوذُ العربِ داخلَ البَر الإفريقي، وامتدَّ صيتُ زنجبار واتَّسع نفوذُها، حيث نجحَ السُّلطان سعيد بن سُلطان البوسعيدي عام 1837م في إعادة ضمَّ مومباسا إلى حُكمه وإنهاء حُكم المزاريع، وكذلك الامتداد بسيطرته إلى جزيرة مدغشقر حيث قدَّم مشروعًا للتَّحالف مع ملكتها وذلك بالزواج مِنْها. كما توسَّع في سواحل الصومال توسُّعًا سلميًّا، وكان سبيله هو إلى ذلك هو ربط موانئها بنظامه الاقتصادي الحُر، حتَّى استطاعَ أنْ يستوليَ على سواحل إفريقيا الشَّرقيَّة من رأس جردفون شمالًا إلى خليج دلجادو جنوبًا في أكبر إمبراطوريَّة عُمانيَّة في ذلك التَّاريخ. ولا تزال الآثار العظيمة شاهدةً إلى يومنا هذا على ازدهار زنجبار وأشْهَرها القصر الَّذي بناه السَّيد سعيد على شاطئ المحيط وأسماهُ قصر «المتوني» واسْمُه مأخوذ من نهر المتوني، وهو نهر صغير في زنجبار ينبعُ من مكانٍ غير بعيد عن القصر ثمَّ يجري نَحْوَه ويخترق بساتينه، ثمَّ ما يلبثُ أن يتفرعَ داخلها إلى جداول صغيرة تنساب صافية إلى مختلف الاتِّجاهات، ثمَّ تنتهي مياهه إلى المحيط، كما بنَى ابنه السُّلطان برغش قصر العجائب. إضافةً إلى جَمال الطَّبيعة كانتِ المآذنُ البيضاء اللامعة للمساجد وقصورُ السُّلطان في «ستون تاون» وغيرها من المآثر الَّتي تحكي قصَّة أعظم إمبراطوريَّة عربيَّة حكمتِ الشَّرق الإفريقي والغرب الآسيوي .
بعد رحيل السَّيد سعيد بن سُلطان الَّذي كانتْ تتراقصُ له غابات زنجبار وانقسام الحُكم العُماني بَيْنَ مسقط بزعامة ابنه ثويني وزنجبار الغنيَّة بالثَّروات بقيادة شقيقِه ماجد على أن يدفعَ الأخير لشقيقِه سُلطان مسقط ضريبةً لم تستمرَّ أكثر من عام لتبدأَ القوى الاستعماريَّة في مشروع «فرِّق تَسُد» بَيْنَ الجناحَيْنِ الآسيوي والإفريقي ويبدأ الضَّعف يتخلَّل الإمبراطوريَّة العُمانيَّة المتراميَّة الأطراف. وبدأتْ زنجبار تخسرُ أملاكَها أمام القوى الاستعماريَّة العظمى. فقد باعتْ أو تنازلتْ عن بعضِها (مِثل مقديشو إلى إيطاليا أو مومباسا إلى بريطانيا). ثمَّ حدّدت لجنة الحدود الألمانيَّة ـ البريطانيَّة ساحل الزّنج بحيث أبقوا لزنجبار شريطًا ساحليًّا عرضه (10) ميل بحري (19 كم) على طول الشَّريط السَّاحلي لشَرقِ إفريقيا، والَّذي يمتدُّ من رأس دلجادو (ضمن أراضي موزمبيق حاليًّا) إلى كيبيني بكينيا، بما فيها مومباسا ودار السَّلام والجزر المحيطة، بالإضافة إلى العديد من القرى الموجودة في ما يُسمَّى الآن الصومال.
عادتِ القوى الأوروبيَّة إلى المنطقة تحملُ نَفْس المشروع القديم (الحملات الاستعماريَّة) وهو المشروع الَّذي من خلاله مارستْ كُلَّ الموبقات فأصبحتْ تُهيمن على أجزاءٍ كبيرة من القارة الإفريقيَّة والَّتي قسّمتْ بَيْنَ بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا، كما تمكَّنتْ هذه القوى من اختراق ما تبقَّى من الوجود العُماني العربي في الشَّرق الإفريقي حيث بدأتْ بريطانيا تدريجيًّا بممارسة نفوذِها في زنجبار وذلك بعد توقيع اتفاق مع المانيا سنة 1890، والَّتي تعهَّدتْ ألمانيا فيها بعدم التَّدخُّل بالمصالح البريطانيَّة في زنجبار. جعلتْ تلك المعاهدة زنجبار وبمبا محميَّتيْنِ بريطانيَّتيْنِ (وليس مستعمرتَيْنِ) وقِطاع كابريفي (وهو الآن في ناميبيا) جزءًا من جنوب غرب إفريقيا الألمانيَّة. بقِيَ الحُكم العُماني من خلال سُلطان دُونَ تغييرٍ تحت نفوذ بريطانيا، وبعد وفاة حمد بن ثويني في الـ(25) من أغسطس 1896م استولَى ابن عمِّه خالد بن برغش النَّجل الأكبر للسُّلطان الثَّاني برغش بن سعيد على الحُكم وأعلنَ نَفْسه الحاكم الجديد. وكان مخالفًا لرغباتِ الحكومة البريطانيَّة الَّتي فضَّلت حمود بن محمد. أدَّى ذلك إلى مواجهة يوم الـ(27) من أغسطس 1896م، سُمِّيَت فيما بعد بالحرب الإنجليزيَّة الزنجباريَّة عِندَما أعطتْ خالد إنذارًا مدَّته ساعة واحدة للمغادرة، ولكنَّه رفض. فأطلقتْ سُفن البحريَّة الملكيَّة النَّار في السَّاعة التَّاسعة صباحًا فدمَّرت قصر بَيْتِ الحكمة، فهربَ خالد إلى القنصليَّة الألمانيَّة. أعلنَ بعدَها عن وقفِ إطلاقِ النَّار بعد (45) دقيقةً من بدءِ العمليَّة وتُسمَّى أقصر معركة في التَّاريخ. وفي الحقيقة الإنجليز لم يواجهوا سوى حامية القصر، ولا يُمكِن تسميتُها معركة ولكن لإضفاء التَّاريخ الاستعماري نَوْع من القوَّة والنُّفوذ لا أكثر.
عيَّن البريطانيون بدءًا من 1913 وحتَّى ما يُسمَّى الاستقلال في عام 1963م مقِيمَين خاصَّيْنِ بهم ويُعَدُّ هو الحاكم الفعلي لزنجبار. وفي الـ(10) من ديسمبر 1963 نالتْ زنجبار استقلالها عن المملكة المُتَّحدة لتصبحَ ملكيَّة دستوريَّة في عهد السُّلطان جمشيد بن عبد الله، لكنَّها لم تدُمْ طويلًا حيث تمَّ الإطاحة به وحكومته المنتَخبة ديموقراطيًّا في الـ(12) من يناير 1964م بعد ثَورةٍ بزعامة جون أوكيلو وهو مواطن أوغندي قام بتنظيم وقيادة الثَّورة مع أتباعه في الجزيرة. واختيرَ الشَّيخ عبيد كرومي رئيسًا لجمهوريَّة زنجبار الشَّعبيَّة وبمبا. وقُتل جرَّاء تلك الثَّورة ما يقرب من (12,000) زنجباري من أصلٍ عربي غالبيَّتهم من العُمانيِّين الَّذين ـ للأسف ـ لم يؤسِّسوا لتشكيلِ قوَّة تمنعُهم من مِثل هذا المصير المؤلِم، وقَبْلَ تلك المجزرة استطاع السُّلطان جمشيد مغادرة المدينة الحالِمة متَّجهًا إلى بريطانيا لِيقِيمَ هناك حتَّى عام 2020م لِيعُودَ بعدَها إلى موطن أجدادِه مسقط ـ عاصمة سلطنة عُمان ويقِيمَ فيها حتَّى رحيله بنهاية عام 2024م ـ رحمه الله، وهو يحمل رمزيَّة شاهدة على قصَّة عظيمة شكَّلت فيها عُمان إمبراطوريَّة عظيمة حكمَتِ الشَّرق الإفريقي والغرب الآسيوي وعلى ضفَّتَي الخليج وسجَّلت إضاءات مُشرِقة للأُمَّة العربيَّة خلال قرونٍ من الزَّمن .
خميس بن عبيد القطيطي