الاثنين 06 يناير 2025 م - 6 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

نهاية دولة المؤسسات

الأربعاء - 01 يناير 2025 02:49 م

د.أحمد مصطفى أحمد

20

تابعتُ مقابلةً تلفزيونيَّة على مدى ساعة لمرشَّح الرَّئيس الأميركي المنتخَب دونالد ترامب لمنصب مستشار الأمن القومي مايك والتز. والمفترض أنَّ ذلك المنصب هو أهمُّ مناصب الإدارة القادمة إلى البَيْتِ الأبيض وصاحبه يكُونُ مَن يملك أفضل العقول الاستراتيجيَّة للتَّعامل مع قضايا البلاد الأكثر أهميَّة، من سياسة الأمن الدَّاخلي إلى السِّياسات الخارجيَّة والعلاقات الدّوليَّة. المُثير أنَّ الصحفي الَّذي أجرى المقابلة، وهو يميني متطرِّف يَعدُّ نَفْسه صهيونيًّا أكثر مِنْه أميركيًّا، كان يتحدث أفضل ممَّن يقابله والَّذي يفترض أن يسمعَنا تصوُّره للسِّياسة الأميركيَّة في السَّنوات الأربع القادمة. إذ كان المذيع بن شابيرو يُطيل فيما يفترض أنَّها أسئلة معبِّرًا عن آرائه في القضايا الَّتي شملها الحوار وبطريقةٍ تُشبه بعض مذيعينا العرب الَّذين يتحدثون أكثر من الضَّيف وبدلًا من الأسئلة يلقون بيانات وكأنَّهم «متحدِّث رسمي». لكنَّ المُدهشَ حقًّا كان الضَّيْف نَفْسه، الَّذي لا تسمع مِنْه سوى «إنشاء» لا يتجاوز ما يُمكِن أن يطرحَه تلميذ في المدرسة العُليا.

لم أستغربْ كثيرًا ما سمعتُ من مايك والتز، الَّذي لا تزيد مؤهِّلاته عن خدمة عسكريَّة أخذتْه إلى أفغانستان والعراق وكأنَّ ذلك يجعله خبيرًا استراتيجيًّا عالَميًّا وبمنطقة الشَّرق الأوسط. كما أنَّ دخولَه السِّياسة الأميركيَّة بجديَّة بدأَ مع انتخابه للكونجرس قَبل ستَّة أعوام فقط. ورغم أنَّه يجلس في لجان كونجرس لها علاقة بالأمن القومي لكن ذلك أيضًا ليس بالضرورة كافيًا ليكُونَ المسؤول عن رسمِ سياسة أقوى دَولة في العالَم داخليًّا وخارجيًّا. أمَّا سببُ عدم دهشتي فهو توقُّعي أنَّ دونالد ترامب تعلَّم من فترة رئاسته الأُولى بألَّا يغامرَ في اختيار فريقه معتمدًا على ترشيحات لشخصيَّات من «المؤسَّسة» كَيْ لا يكررَ طردَ كِبار موظَّفي إدارته كما فعلَ في بداية فترة رئاسته السَّابقة. وبالتَّالي كنتُ أتصوَّر أنَّه سيختار هذه المرَّة على أساس مَن يتَّفق معه في طريقته وأفكاره وتصوُّراته، بِغَضِّ النَّظر عن كفاءته ومؤهِّلاته. وهكذا لم يخرجْ ما قاله مايك والتز عن التَّحدِّيات الَّتي تواجهها أميركا، من روسيا والصِّين إلى «الشَّرق الأوسط» عمَّا يُردِّده ترامب من تصريحات وما يكتبه على مواقع التَّواصُل. بالضَّبط كأنَّه يُردِّد ما يقوله «الرَّئيس» وحتَّى يزايد عَلَيْه بأن «يسمعَه ما يُحبُّ ويُريد»!

معروف عن ترامب، وحليفه الحالي الملياردير إيلون ماسك، العداء للمؤسَّسة وحتَّى لكُلِّ ما هو حكومي وله علاقة بطُرق إدارة الدَّولة بشكلٍ عام. من هنا، فاختياراته لأركان إدارته تُمعن في إضعاف فكرة الدَّولة لصالح إدارة أُمور القوَّة العظمى في العالَم بطريقة «المُعلِّم صاحب المقهى». أمَّا المُشْكلة الحقيقيَّة فهي أنَّ جهود ترامب في فترة رئاسته القادمة لإنهاء «دَولة المؤسَّسات» تتضافر مع منحى سابق بسنوات يتعلَّق بضَعف المؤسَّسات عامَّة في الدَّولة الَّتي كانتْ تفخرُ بأنَّها لا تُدار من قِبَل شخص أو أشخاص مهما كانتْ مراكزهم ومؤهِّلاتهم.

فمراكز البحث والتَّحليلي، الَّتي تدعم صانع القرار، تتراجع ليس في أميركا وحْدَها وإنَّما في الغرب ورُبَّما في العالَم كُلِّه. والأحزاب السِّياسيَّة في تدهوُر مستمرٍّ، حتَّى لم يَعُدْ هناك فارق بَيْنَ حزبٍ وآخر لا في السِّياسات والمبادئ ولا حتَّى في الأشخاص. رغم كُلِّ ذلك، أصَبْني بعض الذُّهول حين قال مايك والتز عن قضايا العالَم المُعقَّدة وتحدِّيات السِّياسة الخارجيَّة الأميركيَّة إنَّها «بسيطة ومباشرة كما يراها الرَّئيس ترامب وليسَتْ بحاجةٍ إلى سياسات كيسنجريَّة»، في إشارة إلى وزير الخارجيَّة المخضرم السَّابق ومستشار الأمن القومي سابقًا الرَّاحل هنري كيسنجر!

إذا كان تأثير ترامب في فترة رئاسته الأُولى أدَّى إلى صُعود اليمين، والمُتطرِّف مِنْه بخاصَّة في كثير من دوَل الغرب من إيطاليا إلى مملكة نيذرلاندز، فإنَّ تأثيرَه في فترة رئاسته القادمة سيزيد من ذلك المنحى لكن مع خطر آخر أهم قد لا يكُونُ ملحوظًا ولا يحظى بتغطية إعلاميَّة. ذلك هو إكمال القضاء على دَولة المؤسَّسات، مع ملاحظة أنَّ ذلك الخطر له إرهاصاته في كثير من دوَل ما كانتْ تُسمَّى «الديموقراطيَّات الرَّاسخة» مِثل بريطانيا وغيرها. بالطَّبع مِثل تلك النِّهايات لا تكُونُ حاسمة تمامًا، ولا تحدُث بَيْنَ عشيَّة وضحاها، لكنَّها عمليَّة مستمرَّة ما لم يتمَّ وقفُها وتعديلُ المسار. وما ظواهر مِثل رئاسة ترامب أو صُعود إيلون ماسك إلى إدارة الدوَل وأيضًا صُعود شخصيَّات مماثلة في دوَل أخرى مِثل لو بن في فرنسا ونايجل فاراج في بريطانيا وأمثالهما إلَّا عوامل محفِّزة في عمليَّة نهاية دَولة المؤسَّسات. لكنَّ بذرةَ التَّدهوُر هي في المؤسَّسات ذاتها الَّتي تقريبًا دخلت مراحلَ جمودٍ مختلفة المستوى منذُ ثمانينيَّات القرن الماضي. والأرجح أنَّ شكلَ الدَّولة/الأُمَّة، أو الدَّولة الوطنيَّة الَّذي عرفناهُ منذُ نهايات القرن التَّاسع عشر في طريقه للاضمحلال. وللأسف الشَّديد لا تكُونُ هناك نماذج جاهزة لتحلَّ محلَّ النّموذج المُنتهي، إنَّما تمرُّ الدوَل بفتراتِ «ميوعة» حتَّى تطوّر شكلًا جديدًا للحُكم والإدارة.

وفي ضوء ما نشهده في كثير من أنحاء العالَم، وليس في أميركا والغرب فحسب، يخشى أن تكُونَ الفترة الانتقاليَّة تلك ما بَيْنَ نهاية دَولة المؤسَّسات وبداية شكلٍ جديد فترة فوضَى وعُنف تنسف كثيرًا من إنجازات البَشَريَّة في القرون الأخيرة.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]