رحل عام 2024 وما زالت جراح غزَّة تنزف، وقد ترك معه مواجع عظيمة، وفواجع مؤلمة، وأحداثًا مخزيَّة، وسُلوكًا غوغائيًّا مقزِّزًا، وعملًا همجيًّا جبانًا؛ يَقُومُ بها الاحتلال الصهيوني الغاشم، في حرب إبادة لم يشهدِ التَّاريخ المعاصر مِثلها فظاعةً وقسوةً ونكالًا، في حربٍ عبثيَّة وعدوانٍ ظالم وتطهيرٍ عرقي وإبادةٍ جماعيَّة وسحقٍ للإنسان والحجر والشَّجر والدواب، في قتل الأطفال والنِّساء والشيوخ، ليستمرَّ الاحتلال الصهيوني المُجرِم في نذالته وجبنه وسقوطه في قتلِ أبناء غزَّة وتشريدهم وتهجيرهم وتجويعهم وسحقِهم وتهديم البيوت وإحراق المُخيَّمات، وتدمير البلاد وكُلِّ مرافق الحياة. فـ»إنَّا لله وإنا إليه راجعون».
ولقد أفصحَ واقع الإجرام الصهيوني على غزَّة عن نزول المُجتمع الدّولي إلى دركات القبح والجهالة، والبغي والظُّلم، وأسدل السِّتار على كُلِّ ذرَّة خير أو ضمير حي أو شعور بالإنسانيَّة أو أخلاق الإنسان، في ظلِّ عالَم هانتْ عَلَيْه المشاهد الوحشيَّة الإجراميَّة الَّتي لحقتْ بأطفال فلسطين وحرائرها، والغطاء الَّذي أحاطَه به الغرب والشَّرق لتشريع الاحتلال وتماديه في غيِّه وظُلمِه وانحرافه في مواجهة أطفال رضَّع، وأيتام وأرامل، وصغار وكبار سِن، في خروج عن كُلِّ مبدأ وفضيلة وإنسانيَّة، لتطغَى عَلَيْها جبروت النَّفْس وحقدُ القلبِ وغلظته وقسوته، ويظلُّ الإجرام الصهيوني مستمرًّا بحقِّ الأبرياء والأطفال والكِبار والصِّغار، والنِّساء والرِّجال، والمساجد والمستشفيات والمدارس والجامعات وكُلِّ مؤسَّسات الحياة ومُقوِّمات العيش، الَّتي لم يتركْ لها الاحتلال أثرًا، أحداث تنفطر لها القلوب وتشيب لهولها الولدان، دُونَ أن يلوحَ في الأُفق مؤشِّر نهايتها، ودُونَ أن يحركَ هذا العالَم ساكنًا أو يتحركَ لوقفِ هذه الإبادة والحرب العبثيَّة، مع استمرار أيدي القتل الصهيونيَّة وآليَّاتها في ارتكاب وحشيَّتها ونذالتها وغطرستها، لتبقَى وصمة عارٍ في جبينِ هذا العالَم ومنظَّمات الأُمم المُتَّحدة ومؤسَّسات المُجتمع الدّولي وحقوق الإنسان والمرأة والطُّفولة، الَّتي سقطتْ أقنعتها، وظهرتْ على حقيقتها، وكشفتْ عن الغطاء الَّذي تتستَّر به في عدائها للإنسان العربي المُسلِم.
ومع كُلِّ الأوجاع الَّتي أثقلتْ كاهل البلاد والعباد، والظُّروف الصَّعبة الَّتي يعيشها أهلُ غزَّة، وتتفطر لها قُلوب أحرار هذا العالَم وتُؤلِمهم أوجاع غزَّة وأهْلِها؛ تبقى الثِّقة بالله أعظمَ طريق وأصدَقَ ملجأ وأكرَمَ لُطف يصنع التَّغيير ويبدِّل الحال ويرفع هذا الإجرام ويفتح على أهل غزَّة نوافذ الأمل بردًا وسلامًا، محطَّات إيمانيَّة يقرأ المؤمن في إيمانه المُطلَق بإرادة الله النَّافذة في تغيُّر الأحوال والأزمان وحكمته في انقضاء الأيَّام والأعوام ماضية، حكمة كونيَّة وسنَّة ربانيَّة، وفرصة لِبَنِي الإنسان في استدراك فرص التَّغيير وقراءة أساسيَّات ومعطيات التَّحوُّل في السُّلوك، والتَّغيير الذَّاتي وإصلاح النَّفْس وإعادة توجيه بوصلة المسار لعملٍ أكثر إخلاصًا وأشدّ وثوقًا بربِّ الكون ومدبِّره، وإعادة قراءة الحياة في ثوب جديد، وهي اليوم إيذان بتغيُّر الحال وفرصة لإعادة النَّظر في واقع المسار، وبناء محطَّات أكبر للسَّلام، وتضييق كُلِّ الفرص المؤدِّية إلى الخصام والفُرقة والشِّقاق والخلاف، وإشراقة جديدة تعكس حُبَّ التَّغيير وشغَف التَّوَجُّه إلى الحقِّ الَّذي يحفظ للجميع حقوقهم ويسمح لهم بممارسة أدوارهم في إطار الفضيلة والأخلاق والمسؤوليَّة الَّتي تعكس روح الأخوة الإنسانيَّة، ومنهج التَّعارف الَّذي هو نتاج هذا الاختلاف الحاصل بَيْنَ البَشَر، وروح التَّقوى الَّتي هي المنتَج الَّذي يعكس صفاء النَّفْس وطِيب الخاطر وحُسن التَّقرُّب إلى الله في كُلِّ العبادات الَّتي كلَّف الله بها عبادة وهي الطَّريق لحياة سعيدة ومنهج يتسامَى فوق كُلِّ منغِّصات الخلاف ومرهقات الاختلاف، ويبقَى المؤمن منوطًا بهذه القواعد والأُسُس ومعنيًّا بهذا التَّغيير والإصلاح ومأمورًا بإعادة تجديد إيمانه وثقته بالله ليمارسَ دَوْره في هذا العالَم في نشرِ السَّلام والحُب وإصلاح الخلل وتغيير الذَّات، وإعادة إنتاج الحياة في ثوب القوَّة والإيمان، والصِّدق والأمانة، والمسؤوليَّة والنَّزاهة، والإخلاص والإنتاجيَّة، والجدِّ والاجتهاد، والمثابرة والالتزام، والمنهج والتَّخطيط، والتَّقييم والمتابعة، والتَّشريع والضَّبط، والمبدأ وحياة الضَّمير، والمشترك القِيَمي والمؤتلف الإنساني، والإرادة والعزيمة وصلابة الأمْرِ وصدق النَّفْس وروح التَّحدِّي، والسَّلام الدَّاخلي والمسؤوليَّة الذَّاتيَّة والعطاء للوطن بلا توقُّف، والإنجاز النَّوعي الَّذي يلتصق بأولويَّاته بلا حدود، وتجسيد روح الأخوة وقِيمة الالتزام، والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة والتَّعاون البنَّاء والشَّراكة الفاعلة.
إنَّ تعاقب الشُّهور والأيَّام واختلاف الأزمان وتغيُّر الأحوال وانقضاء السّنون والأعوام، فرصة للثِّقة بالتَّغيير، واستشعار بأنَّ دوام الحال من المحال، وأنَّ اللَّيْلَ سينجلي، والقيد حتمًا سينكسر، ومن عتمة الظَّلام يولد النَّهار، وأنَّ نصْرَ الله قريب وأنَّ هذا الاستيطان المتسرطِن في جسدِ هذه الأُمَّة مصيره الزَّوال، وهكذا تجدُّد الحياة وتطوُّرها وفق سنَّة كونيَّة ومشيئة إلهيَّة تستدعي من الإنسان مزيدَ الإيمان الصَّادق، واليقين الحقَّ، والصَّبر الجميل، والرُّوح الإيجابيَّة العالية، والسِّيرة الأخلاقيَّة الحسَنة، وأنَّ بناء الأوطان واسترداد الأرض إنَّما بما تُقدِّمه الشُّعوب من تضحيات عظيمة، وتستنهضه في هِمم أبنائها ومواقفهم النِّضاليَّة وروحهم الوثَّابة للمجدِ والعطاء، وتمكّنهم من التَّعاطي الواعي مع متطلبات الحياة ومواقفها المتغايرة، وما تستنطقه من قِيَم الجهاد وأخلاقيَّات النَّصر، فهي مساحة الأمان الَّتي تضْمَن لهذه الحياة الاستمراريَّة بوضوح، والسَّير بها في خُطًى ثابتة تتناغم مع مبادئ الدِّين العظيم. عَلَيْه فإنَّ النَّصرَ تصنعه الأيادي العصماء المؤمنة بالتَّغيير فكرًا وعقيدةً وطريقةً وشرعةً ومِنْهاجًا، فهي مفاتيح البناء ومداخل التَّغيير ومحطَّات التَّطوير الَّتي تنتج للأوطان خيرًا عظيمًا، ومع أنَّ ما يعيشُه أبناء غزَّة من ظُروف صعبة، ومواقف عميقة الأثَر، كبيرة التَّأثير على النَّفْس ووقعها على السُّلوك، إلَّا أنَّ الإيمان والصِّدق والإرادة والمنهج والأخلاق، وما سطَّره أبناء غزَّة من معاني الرِّضا والصَّبر والصُّمود والثَّبات على المبدأ وتحرير الأرض أعلى درجة مِنْها وأعظم أثرًا في صناعة الحياة في ثوب الأمل والتَّجدُّد. متفائلون بأنَّ الحياة مستمرَّة لن توقفَها الصَّدمات، ولن تثنيَها الأزمات، ولن تفتتَ مع عضد الشُّعوب العظيمة والحضارات الشَّامخة السَّامقة المآسي والأحزان.
ويبقى العام الجديد 2025 نافذةً جديدة لحياة مُتجدِّدة، ملؤها التَّفاؤل والإيجابيَّة، والثِّقة في التَّغيير، وانتصار الإرادة المؤمنة بالثَّوابت، الصَّادقة مع نَفْسها، المتعاونة مع واقعها، المتصالحة مع ذاتها، المحاورة للآخر، ومع بقاء تأثير هذه الأوجاع في النَّفْس، مكلوم بها القلب، إلَّا أنَّنا نؤمن بأنَّ التَّفاؤل حياة جديدة، ومرحلة مُتجدِّدة، آخذين بحبل الأمل بالله والثِّقة في قضائه، طريقنا لحياةٍ ملؤها العمل والعطاء والإنجاز، إنَّها نوافذ مُتجدِّدة للحياة لإعادة إنتاج واقعنا من جديد، والعيش في عالَم مُتجدِّد مليء بالأحداث والظُّروف، لندركَ أنَّ مَن يستطيع البقاء فيها هو مَن يملكُ الإيمان والصَّبر والمبدأ، ويضع هواجس التَّثبيط والخذلان والهوان والانكسار والوطن والضَّعف وراءه ظهريًّا، لِيبدأَ صفحةً جديدة ملؤها العطاء وقوامها الإنجاز، متجاوزًا سلبيَّتها، معزِّزًا نهضة التَّجديد فيها، منتِجًا لها بروح تحمل الرِّضا والسَّعادة والهناء في جماليَّات الالتزام والقانون والمسؤوليَّة والتَّمكين الَّتي تصنع في الإنسان فرص الثِّقة والأمل بقدرته على العيش في المستقبل، وتمنحه روح التَّغيير في التَّفكير بطريقةٍ استثنائيَّة مبتكرة على غير ما اعتاد عَلَيْه في ظروفٍ متغايرة وأوضاع متناقضة ومسارات متعرِّجة أحيانًا ومستقيمة أحيانًا أخرى. ويبقى خلاص العالَم من هذه الأحداث المؤسفة والوقائع المحزنة والظُّروف المقلقة، برجوعه إلى الأخلاق، العلاج والدَّواء، والحصن والحُضن، والتَّغيير والإصلاح والتَّعايش والسَّلام، لِيبدأَ العالَم الحُر عامَه الجديد متحمِّلًا مسؤوليَّة عظيمة وأمانة تاريخيَّة في إيقاف هذه الحرب العبثيَّة ووقف هذا الإجرام الصهيوني الغاشم، فهي حقًّا ما قد تبقي له حظوة من الذِّكر بعد هذا النُّفوق المُخزي، والسُّقوط الأخلاقي في وَحْلِ الإجرام وتشريع الإبادة.
فاللَّهُمَّ في تغيُّر الأحوال وتعاقُب الأزمان وانقضاء الشُّهور والأعوام ما يدعونا إلى الثِّقة بانتهاء العبثِ بالإنسان والظُّلم للأوطان والقتل والتَّنكيل والتَّشريد بعبادك الصَّابرين في غزَّة. اللَّهُمَّ ارفعْ عن أهلِ غزَّة البلاء، اللَّهُمَّ عَلَيْك باليهود المغتصِبِينَ والصَّهاينة المُحتلِّين ومَن والاهم فإنَّهم لا يعجزونك.
د.رجب بن علي العويسي