لا تقتصر الرَّغبة في إصلاح الإدارة العامَّة أو المؤسَّسات العامَّة، أو النِّظام الإداري في أيِّ بلدٍ على الإصلاحات الإداريَّة في المنظومة الحكوميَّة، أو الاعتقاد السَّائد بأنَّ أيَّ خلَلٍ في المنظومة الإداريَّة يبدأُ بإصلاحات إداريَّة أو أنَّه عمل إداري داخلي فقط، بل يتعدَّاها إلى أبعدَ من ذلك بكثير، حيث ينطلق ـ من وجهة نظري ـ من خلال إصلاحات سياسيَّة على اعتبار أنَّ «إصلاح الإدارة يُعَدُّ قضيَّة سياسيَّة أصلًا، وأنَّه يَجِبُ أن يساعدَ على تحقيق أهداف وغايات سياسيَّة، ولا يَجِبُ أن يقتصرَ على إصلاح المنظومة الإداريَّة، أو الأهداف الإداريَّة فقط، فالإصلاح الإداري هو إصلاح سياسي أيضًا، وأنَّ هذا الأخير يشقُّ طريقه مباشرة إلى القضايا الجوهريَّة للعلاقة بَيْنَ الحكومة والمُجتمع.
فإذا كان ذلك ـ أيُّ الإصلاح الإداري ـ مُهِمَّة سياسيَّة، أو يقعُ في قلبِ السِّياسة، ويبدأ من الأعلى أيّ منظومة القيادة السَّياسيَّة، فإنَّ إصلاح الاقتصاد أو الإدارة الاقتصاديَّة يبدأ بإصلاحات في السِّياسة أو المنظومة السِّياسيَّة، فإدارة اقتصاد أيِّ دَولةٍ هو عملٌ إداري؛ أي يبدأ بإصلاحٍ في الإدارة السِّياسيَّة، أي الفِكر السِّياسي أو منظومة التَّفكير القائم على القيادات السِّياسيَّة العُليا الَّتي تمَّ اختيارها لإدارة الاقتصاد، فممَّا لا شَكَّ فيه أبدًا أنَّ «العلاقة وثيقة ومرتبطة ومستمرَّة بَيْنَ الاقتصاد والسِّياسة وأنَّهما وجهانِ لعملةٍ واحدة فهما لا ينفصلانِ أبدًا، بالتَّالي من الضَّروري» المواءمة بَيْنَ الجانب السِّياسي والاقتصادي في الحلول والتَّوَجُّهات والقرارات الَّتي تُطرح لاحتواء الأزمات والتَّحدِّيات الاقتصاديَّة الَّتي تواجِهُها الدوَل.
الاقتصاد يُعَدُّ مرآةً عاكسة للسِّياسة ولشكلِ النِّظام السِّياسي. فكُلُّ تطوُّر اقتصادي يشهده أيُّ بلدٍ لا بُدَّ وأن ينعكسَ لاحقًا على شكلِ نظامه السِّياسي. إذًا التَّطوُّر الاقتصادي يتطلَّب نظامًا سياسيًّا ديمقراطيًّا قابلًا للتَّغيير والتَّطوُّر. عَلَيْه، فإنَّ النُّموَّ الاقتصادي يحتاجُ إلى مرونة سياسيَّة. كما يَجِبُ أن يظلَّ منحى كُلٍّ من السِّياسة والاقتصاد شاملًا وذا روابط قويَّة، وأن يكُونَ كُلٌّ مِنْهما أي الاقتصاد والسِّياسة في خدمة الآخر، حينها ستنجح السِّياسة ويتطوَّر الاقتصاد. ومن المؤكَّد أنَّه لا اقتصاد قويًّا في ظلِّ سياسة ضعيفة. ولا سياسة قويَّة دُونَ اقتصاد قوي.
وتزداد العلاقة تعقيدًا والتباسًا حينما يكُونُ الفاعل السِّياسي (الوزير أو الحاكم، الحزب الحاكم) فاعلًا اقتصاديًّا (رجُل مال وأعمال أو صاحِب مصلحة اقتصاديَّة) في نَفْسِ الوقت، ففي مِثل هذه الحالة تتمُّ الإساءة للاقتصاد وللسِّياسة معًا، فلا الاقتصاد يُمكِن أن يتطوَّرَ في بيئة تنعدم فيها شروط المنافسة الاقتصاديَّة، ولا السِّياسة يُمكِن أن تتطوَّرَ بسببِ هيمنة المال والمصالح الفئويَّة على الشَّأن السِّياسي، لذا من الضَّرورة في الجانب الآخر أن لا تبدأَ مناقشات إصلاح الإدارة العامَّة قَبل العمل على الأفكار والتَّوَجُّهات والأهداف السِّياسيَّة في المنظومة الحكوميَّة.
باختصار، لا أتصوَّر تحقيق إصلاحات إداريَّة ناجحة وذات مردود فعَّال في أيِّ نظام إداري إلَّا بالبحثِ في الصِّلة الوثيقة بَيْنَها وبَيْنَ السِّياسة، وبدقَّة أكبر لا يُمكِن تحقيقها، أي الإصلاحات في النِّظام الإداري والإدارة العامَّة، وتحديدًا الإدارة الاقتصاديَّة النَّاجحة إلَّا «بإعادة ابتكار الحكومة سياسيًّا» من حيث الوسائل والأهداف، وبأن تكُونَ النَّتائج السِّياسيَّة واضحةً في الإصلاحات الإداريَّة؛ باعتبار أنَّ إصلاحَ المنظومةِ الإداريَّة في الدوَل يُعَدُّ قضيَّة سياسيَّة أصلًا.
على ضوءِ ذلك سيصدر لي ـ بفضلِ اللهِ تعالى ـ بمَعرِض مسقط للكِتاب 2025، كِتاب يحمل عنوان: الإصلاح السِّياسي وبناء الدَّولة المعاصرة (دراسة تُسلِّط الضَّوءَ على الوظيفة السِّياسيَّة للحكومة ودَوْر الأدوات السِّياسيَّة في تحسين أداء الأجهزة والمؤسَّسات العامَّة مع تطبيقٍ مقارن للأدوات والاتِّجاهات المُشابِهة في رؤية سلطنة عُمان لعام 2040)، حيث يُركِّز الكِتاب على المواضيع الآتية، على سبيل المثال لا الحصر: الأدوات السِّياسيَّة ودَوْرها في تحقيق الإصلاح في الإدارة العامَّة، الإصلاح السِّياسي: الارتباط بَيْنَ تطوير السِّياسات العامَّة وتحسين مستوى أداء الأجهزة الحكوميَّة، الإصلاحات السِّياسيَّة ودَوْرها في احتواء الأزمات الاقتصاديَّة، المكاسب والمخاطر الاقتصاديَّة للوظيفة التَّواصليَّة للحكومة مع المواطن، أثير القرارات الإداريَّة على الإصلاح الاقتصادي وانعكاس ذلك على مكانة وأداء النِّظام السِّياسي والإداري، التَّحديث السِّياسي وتحسين أداء الإدارة العامَّة والأجهزة الحكوميَّة في (رؤية 2040 لسلطنة عُمان).
ختامًا، أسألُ الله العليَّ القدير أن ينفعَ بهذا الإصدار الوطن والمواطن، وأن تستفيدَ مِنْه القيادات السِّياسيَّة والإداريَّة في هذا البلد، كما أسألُه ـ عزَّ وجلَّ ـ أن يحفظَ هذا الوطن وقيادته الحكيمة من شَرِّ الحاقد الحاسد الفاسد الكائد. اللَّهُمَّ آمين.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @