على مدَى سنواتٍ سُنَّتِ القوانين والتَّشريعات، وشُنَّتِ الحملات، وفُرضتِ العقوبات تحت مُسمَّى «وقف تمويل الإرهاب»، مع أنَّ تمويل الإرهاب بدأ بتشجيع من أصحاب تلك الحملات والدَّعوات حين كان تشكيل الجماعات المُسلَّحة المُتطرِّفة يخدم أهدافهم من أفغانستان إلى غرب إفريقيا. لكن بالطَّبع لا يُمكِن إلَّا التَّرحيب بكُلِّ ما يُسهم في «تجفيف منابع الإرهاب» من تمويل وتجنيد وغيره. وبِغَضِّ النَّظر عن استغلال بعض القوى الكُبرى في العالَم لمسارِ منعِ تمويل الإرهاب لِتَحقيقِ أهدافٍ سياسيَّة جديدة دُونَ مساسٍ بدعمِ وتمويل الإرهابيِّين حقًّا، فإنَّ الضَّغطَ على مصادر التَّمويل أدَّى إلى نتائج واضحة أضعفتْ كثيرًا من التَّنظيمات الإرهابيَّة حَوْلَ العالَم. وهكذا شهدنا مَن شجَّع ورعَى تمويل الجماعات الإرهابيَّة يسعَى لوقفِ تمويلها، سواء بعد استنفادِ الغرض الأهمِّ مِنْها أو لأنَّها أصبحتْ خطرًا يصعبُ احتواؤه أو أنَّها رُبَّما تُهدِّد مصالح الرُّعاة وحلفائهم. وفي النِّهاية هذا أمْرٌ محمود، بِغَضِّ النَّظر عن الأسباب والدَّوافع، خصوصًا لغالبيَّة النَّاس الَّذين ينبذون الإرهاب ويكتوون بنيرانه ويريدون القضاء عَلَيْه تمامًا.
في الأوان الأخير دخلنا مرحلةً جديدة، وتحت مظلَّة القوانين هذه المرَّة، هي تمويل التَّطرُّف السِّياسي والاتِّجاهات العنصريَّة خصوصًا في الدوَل «الديموقراطيَّة». فهناك اتِّجاه متصاعد من قِبل شريحة مُهمَّة من رِجال المال والأعمال، فاحشي الثَّراء، لدعمِ تيَّارات اليمين واليمين المُتطرف في دوَل الديموقراطيَّات الرَّاسخة. بدأ ذلك حثيثًا مع دعمِ دونالد ترامب في انتخابات 2016 ثمَّ تحالف رِجال أعمال مع اليمين المُتطرِّف في فرنسا وإيطاليا ونيذرلاندز والسويد وغيرها. رُبَّما يُفهمُ تقليديًّا أنَّ اليمينَ والتيَّارات المحافظة هي المفضَّلة لدَى الأثرياء ورِجال المال والأعمال باعتبار اليمين السِّياسي «صديقًا للبزنس» ومع تحرير الاقتصاد وداعمًا للسُّوق على حساب قِطاعات الخدمة العامَّة. كما أنَّ بعض هؤلاء الأثرياء يفضِّلون اليمين والمُحافِظِين لأنَّهم أقلُّ فرضًا للضَّرائب والرُّسوم على عكس أحزاب الوسط أو يسار الوسط الَّتي تميل سياساتها نَحْوَ الإنفاق العامِّ على الخدمات ومشروعات البنية الأساسيَّة ورُبَّما تسعَى لِتحقيقِ «عدالة اجتماعيَّة» عَبْرَ الضَّرائب ومستقطعات التَّأمينات الاجتماعيَّة وتوفر أيضًا برامج رعاية ومساعدات للمواطنين الأقلِّ حظًّا والأكثر عرضةً لخطرِ تحمُّل كلفةِ المعيشة.
الجديد في نَحْوِ العَقدِ الأخير أنَّ هناك تحالفًا يزداد توثيقًا بَيْنَ المال الهائل وبَيْنَ التَّطرُّف يتزامنُ مع زيادة تأثير التَّمويل للحملات الانتخابيَّة على اتِّجاهات التَّصويت. ومع أنَّ ذلك يُثير قلقَ البعض من أنَّه يُفقِدُ «الديموقراطيَّة التمثيليَّة» جوهرها كوسيلة مثاليَّة لاختيار الجماهير من يُمثِّلها في السُّلطة، إلَّا أنَّ الأمْرَ أصبح أكثر خطورةً. فدعمُ المليارديرات وكِبار رِجال المال والأعمال لمرشَّحِي اليمين المُتطرِّف وأصحاب التَّوَجُّهات الشَّعبويَّة، الَّتي تقترب من العنصريَّة، لا يشوّه فقط مسألة تمثيل السُّلطة المنتخَبة للأغلبيَّة من المواطنين، وإنَّما أيضًا يُغذِّي تصاعد التَّطرُّف والتَّمييز في المُجتمعات وفي السِّياسة الدّوليَّة عمومًا. بل إنَّ هناك خطرًا آخر أصبحَ واضحًا الآن بقوَّة وهو سعيُ هؤلاء السِّياسيِّين من اليمين المُتطرِّف، مدعومينَ من رِجال المال الأثرياء، إلى النَّيْل من فكرة «الدَّولة» ومؤسَّساتها بما يُمكِن أن يغيِّرَ شكْلَ السِّياسة في العالَم تمامًا في مُدَّة قصيرة. لعلَّ أوضح مثالٍ على ذلك هو تحالف دونالد ترامب مع مموِّله الأكبر الملياردير إيلون ماسك. إذ يشترك الرَّجُلان في موقفهما من كُلِّ ما هو «مؤسَّساتي» وتقليدي، بل إنَّهما يسعيانِ إلى ضرب كُلِّ الأُسُس المعروفة في السِّياسة والاقتصاد والثَّقافة عمومًا لصالحِ النّزق والعنجهيَّة وحتَّى الأفكار التَّآمريَّة؛ باعتبار ذلك هو «الإبداع الَّذي تعيقه البيروقراطيَّة الرَّسميَّة»!
إذا كان البعض خَشِيَ مع فوز ترامب مجددًا في انتخابات الرِّئاسة الأميركيَّة الشَّهر الماضي من أنَّ ذلك يُمثِّل دعمًا للتيَّارات المُتطرِّفة والعنصريَّة في الدوَل الغربيَّة بأكثر ممَّا حدَث من تأثير لفترةِ رئاسته الأولى، فإنَّ ما يَجِبُ أن يخشاه هؤلاء أكثر هو تحالفه مع إيلون ماسك. فالملياردير الأميركي، أغنى شخص في العالَم الآن، يعلن بوضوح أنَّه سيدعمُ اليمين المُتطرِّف في بريطانيا؛ أي حزب الإصلاح الَّذي يَقُودُه نايجل فاراج المُقرَّب من دونالد ترامب. وليس ذلك سوى مقدِّمة لاصطفافِ عددٍ من رِجال المال والأعمال البريطانيِّين اليمينيِّين، وبعضهم كان يُموِّل حزب المحافِظِين المعارض حاليًّا، لدعمِ نايجل فاراج وحزبه. كذلك صرَّح ماسك بأنَّه يرَى أنَّ حزب البديل من أجْلِ ألمانيا (ايه اف دي) اليميني المُتطرِّف هو الأصلح لقيادة أكبر بلد أوروبي. يعمل المال السِّياسي ـ الَّذي يوفِّره إيلون ماسك وأمثالُه من الأثرياء ـ في حملات تلك الأحزاب والتيَّارات المُتطرِّفة عَبْرَ التَّلفيق والتَّزوير وترويج نظريَّات المؤامرة على الإنترنت وخصوصًا مواقع التَّواصُل، وهو ما يؤثِّر في نتائج التَّصويت. وإذا كانتْ ألمانيا على شفا انتخابات عامَّة بعد انهيار حكومة المستشار أولاف شولتز فإنَّ بريطانيا لم تَكدْ تُغيِّر حكومتها قَبل أشْهُر قليلة. لكن حكومة العمَّال الجديدة فيها بقيادة كيير ستارمر تعاني عثرات متتالية منذُ أسابيعها الأولى في الحُكم، ليس أقلّها تدهور الاقتصاد إلى حدِّ الرُّكود وارتفاع تكاليف المعيشة. وتلك أرضيَّةٌ خصبة للتيَّارات الشَّعبويَّة لترويجِ التَّلفيق والدِّعايات المزيَّفة، وهنا يكُونُ تأثير تمويل ماسك وأمثاله لشخصيَّات مِثل فاراج وغيره متجاوزًا لتصعيدِ اليمين المُتطرِّف إلى الحُكم ويصلُ ضررُه إلى التَّأثير الواسع في تزييف الوعي وإفلاس السِّياسة.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري