«التَّعليم والتَّعلُّم والبحث العلمي والقدرات الوطنيَّة» أولويَّة وطنيَّة عُليا إلى جانب أولويَّات أخرى اعتمدتها رؤية «عُمان 2040» والَّتي تُعَدُّ اليوم مُفتاح الخريطة الاستراتيجيَّة الَّتي وُجِّهتْ إِلَيْها كُلُّ الإمكانات والقُدرات في سبيل تحقيقها لنقلِ عُمان الحديثة من مرحلة البناء والتَّأسيس إلى سُلَّمِ الرَّفاه والتَّمكين وحوكمة مؤسَّسات الدَّولة، فمن يغورُ في حيثيَّات أهداف هذا القِطاع يشعرُ بعُمق ما استُفيض من نقاشات ومشاورات وتحليلات ـ نقلَها لنَا الإعلام الرَّسمي ـ كأحَد مُمكِّنات المُجتمع وأطيافه المُتباينة من أفراد ومجموعات مستقلَّة أو مؤسَّسات رسميَّة وأهليَّة، وهنا نطرحُ سؤالًا جوهريًّا يُسدِلُ مُفردات ما بعده: هل نقفُ على المُربَّع الحقيقي نَحْوَ تحقيق التَّعليم لِمَا جاء في رؤية «عُمان 2040»؟
قد تكُونُ الإجابة الجازمة ظالمة وقد تُتَّهم بالتَّشفي والتَّشظِّي، فدعونا نستعرضُ بعض المحطَّات السَّريعة لِنبحثَ واقع تعليمنا وللقارئ العزيز وصُنَّاع القرار في مؤسَّساتنا التَّعليميَّة الرَّأي السَّديد، فبعد النَّقلة النَّوعيَّة الكبيرة الَّتي شهدها التَّعليم في البلاد منذُ العام (2011) والمتمثلة في الزِّيادة المشهودة للمدارس، ورفع الكادر التَّدريسي الوطني كمًّا وكيفًا، وتقليل العبء التَّدريسي عن كاهل المُعلِّمين ليمنحَهم مُتنفَّسًا للإبداع والتَّميُّز ونقل المعرفة والمهارات من قاع التَّلقين والحفظ إلى قمَّة مهارات التَّفكير والقدرات العُليا، وتعمين بناء وصناعة المناهج الوطنيَّة، و(محاربة) التَّدريس المسائي الَّذي يُعَدُّ عبئًا كبيرًا في مَسيرة المنظومة التَّعليميَّة الوطنيَّة لِمَا ينتجه من فاقد تعليمي كبير، وعدم الاستقرار النَّفْسي والأُسري والجسدي للمُعلِّم والمُتعلِّم والأُسرة، والزِّيادة المهولة في الأبحاث التَّربويَّة والتَّخصُّصيَّة الَّتي من (المفترض) أن تُعالجَ المُشْكلات التَّعليميَّة والتَّربويَّة، وارتفاع مؤشِّر المؤهلات العلميَّة للكوادر التَّدريسيَّة والإداريَّة والفنيَّة.
وأمام كُلِّ هذا الطَّيف الإعلامي الَّذي قُدِّم من وزارة التَّربية والتَّعليم والمؤسَّسات الأخرى المعنيَّة بهذا القِطاع الاستراتيجي يُمكِن أن نختصرَ نتائجه على مستويَيْنِ، فالأوَّل يتعلق بنتائج التَّقارير الدّوليَّة المعتمدة ذات الصِّلة بالتَّعليم، فقَبل فترةٍ وجيزة من هذا الشَّهر صدرتْ نتائج الدِّراسة الدّوليَّة في الرياضيَّات والعلوم للصفَّيْنِ الرَّابع والثَّامن (TIMSS) وقد أظهرتِ النَّتائج مستوى متدنٍّ لطلبتنا لم يصل للحدِّ الأدنى المعتمد دوليًّا، كما شاركتِ سلطنة عُمان أيضًا في الدِّراسة الَّتي تُشرف عَلَيْها الجمعيَّة الدّوليَّة لتقييم التَّحصيل التَّربوي (IEA) والمعنيَّة بتقييم معارف ومهارات وقدرات القراءة لدَى طلبة الصَّف الرَّابع ومقابلتها دوليًّا (PIRLS) وحصلنا على مستوى منخفض ودُونَ المتوقَّع وفق المعيار الدّولي.
وحَوْلَ جودة التَّعليم في العالَم حسب مؤشِّر دافوس والَّذي يُقيّم وفقًا لبيئة التَّدريس والتَّعلُّم، والبيئة البحثيَّة التَّربويَّة، ونقلِ المعرفة وأثَرها، وجودة الكادر التَّدريسي، جاء ترتيبنا الأخير من بَيْنَ دوَل مجلس التَّعاون الخليجي، والعاشر على المستوى العربي، وعلى المستوى العالَمي حصلنا على التَّرتيب (107) من أصلِ (140) عضوًا.
وبعيدًا عن التَّقارير الدّوليَّة ومؤشِّراتها ومعاييرها نجد أنَّ واقعَنا يَشي بكثيرٍ من الممارسات المستغربة ونحن على أعتاب نهاية العام 2024م، فمعدَّل نِصاب الحصص التَّدريسيَّة للمُعلِّمين يتجاوز (24) حصَّة في الأسبوع؛ ممَّا يثقل كاهله بالكثير من الأعباء التَّدريسيَّة، والتَّقويميَّة، والمناوبات وبعض المهام الإداريَّة؛ فيفقده الوقت والتَّفرُّغ لتطوير مهاراته ومعارفه وطُرق تدريسه، كما أكَّد على ذلك كثير من نتائج الدِّراسات البحثيَّة العلميَّة المنشورة.
من جانبٍ آخر تُظهر مؤشِّرات وزارة التَّربية والتَّعليم ارتفاعًا ملحوظًا في التَّدريس المسائي بأكثر من (125) مدرسة في وقتٍ كان المُجتمع يترقَّبُ غلق آخر مدرسة مسائيَّة في البلاد! علاوةً على أنَّ مناهجَنا لا تزال مُثقلة بالكمِّ المعرفي والمعلوماتي الهائل والَّذي يُعزِّز قِيمة الحفظ والتَّلقين لإلقاء ثقلها لاحقًا في الاختبارات التحصيليَّة فقد ممَّا يُفقد الطَّلبة العائد التَّربوي والمهاري الَّذي تلقَّاه طوال عام دراسي كامل.
ثمَّ إنَّ المراقب للمشهد التَّربوي يحاولُ استيعابَ أنَّه، وفي ظلِّ شُحِّ التَّوظيف للكثير من الكوادر الوطنيَّة وثقل هذا الملف الكبير على صدر الحكومة ومؤسَّساتها، كان ينبغي استيعاب مخرجات أبناء الوطن الأكاديميَّة في هذا القِطاع الضَّخم والحسَّاس بَيْنَما نجد تناميًا كبيرًا ومهولًا بتعيين مُعلِّمين من خارج البلاد على اختلاف أجناسهم وثقافاتهم ومرجعيَّاتهم الفكريَّة والدِّينيَّة والأخلاقيَّة ـ مع احترامي الكبير لهم ـ. ومن شُرفة أخرى نجد أنَّ هناك فجوةً كبيرة بَيْنَ مخرجات التَّعليم العامِّ والتَّعليم الجامعي، فالطَّالب يستنزف مُقدَّرات الدَّولة إلى جانب جهده ووقتِه طوال سنَة كاملة من أجْلِ تهيئته وتأسيسه للدِّراسة الأكاديميَّة وكأنَّه طوال السَّنوات الثَّلاث الماضية للصُّفوف (10-12) والمعوَّل عَلَيْها أن تكُونَ انطلاقة التَّأسيس والتَّكوين الفكري والمهاري والتَّحصيلي إلَّا أنَّه وبعد دخوله لمؤسَّسات التَّعليم العالي لا يجد ارتباطًا بَيْنَها وبَيْنَ مستقبله الأكاديمي.
فأمام كُلِّ الاعترافات الخجولة أو البذخ في الإنجازات والمدح الَّذي قدَّمه ويقدِّمه المسؤولون عن هذا القِطاع في المؤتمرات والنَّدوات والإعلام بوجود (بعض) العوائق يظلُّ الواقع والمؤشِّرات الدّوليَّة والواقع الوطني مرآة لحقيقة المُربَّع الَّذي نقف عَلَيْه. وأمام كُلِّ ما تقدَّم يُمكِن للقارئ أن يستوعبَ اتِّجاه بوصلةِ تعليمِنا هل نحن بالفعل جادُّون نَحْوَ تحقيق ما رسمَتْه رؤية «عُمان 2040»؟ فإن كان الجواب (لا) فنحن بحاجة لأن نُسمِعَ المُجتمع ومؤسَّسات الدَّولة السياديَّة بأنَّنا نَسيرُ عكس البوصلة ولا بُدَّ من وقفةٍ تصحيحيَّة تُعيدُ هذا القِطاع الحيَوي لمسارِه وبشراكة وطنيَّة مسؤولة.
د. سلطان بن خميس الخروصي
كاتب عماني