تخيَّل عالَمًا حيثُ العدوَى البسيطة يُمكِن أن تعني الفرق بَيْنَ الحياة والموت. حيث تفشل المضادَّات الحيويَّة الَّتي كانت فعَّالة في السَّابق في العمل، ممَّا يترك الأطبَّاء والمَرضى عاجزين. والحقيقة هنا أنَّ هذا ليس مستقبلًا بائسًا، بل هو واقع نقترب مِنْه بسرعة بسبب مقاوَمة مضادَّات الميكروبات. ولكَيْ نفهمَ مدى خطورة مقاوَمة مضادَّات الميكروبات، أستذكر هنا قصَّة مريض، وهو أب يبلغ من العمر اثنَيْنِ وثلاثينَ عامًا، أُصيب بعدوى بسيطة في الجرح بعد إجراء عمليَّة جراحيَّة روتينيَّة. وعلى الرَّغم من استخدام المضادَّات الحيويَّة، إلَّا أنَّ حالته ساءت، وفي غضون أسابيع انتشرتِ العدوَى بشكلٍ لا يُمكِن السَّيطرة عَلَيْه. وكانتِ البكتيريا المُسبِّبة للعدوَى مقاوَمة لجميع العلاجات المُتاحة. لذلك فقصَّة المريض تلك ليسَتْ فريدةً من نَوْعها، ولكنَّها تعكس أزمةً عالَميَّة متنامية. بل ولعلِّي أصفُ هنا مقاوَمة مضادَّات الميكروبات على أنَّها جائحة بطيئة! وعلى النَّقيض من مرض فيروس كورونا (كوفيد-١٩) الَّذي انتشر بشكلٍ واضح، تُشكِّل مقاوَمة مضادَّات الميكروبات تهديدًا صامتًا، ممَّا يؤدِّي إلى تآكل فعاليَّة العلاجات المُنقذة للحياة.
بطبيعة الحال، تحدُث مقاوَمة مضادَّات الميكروبات في جوهرها عِندَما تطوِّر البكتيريا والفيروسات والطفيليَّات ـ على سبيل المثال ـ آليَّات لمقاوَمة الأدوية المُصمَّمة لقتلِها. وهذه عمليَّة طبيعيَّة تسرعها ـ للأسف ـ الأنشطة البَشَريَّة، وخصوصًا الإفراط في استخدام المضادَّات الحيويَّة وإساءة استخدامها في الطِّب والزِّراعة وتربية الحيوانات! بل إنَّه وعلى الصَّعيد العالَمي، الأرقام مذهلة! حيث قدَّرت دراسة تاريخيَّة نُشرت في مجلَّة (لانست) في عام ٢٠٢٢ أنَّ مقاوَمة مضادَّات الميكروبات أسهمَتْ في أكثر من أربعة ملايين حالة وفاة في عام ٢٠١٩ وحدَه. ومن بَيْنِ هذه الوفَيَات، يُعزى أكثر من مليون حالة وفاة مباشرة إلى حالات العدوَى المقاوِمة للأدوية. وسبحان الله تُنافس هذه الأرقام أرقام الأمراض الأكثر فتكًا في العالَم، مِثل فيروس نقصِ المناعة البَشَريَّة (الإيدز) والملاريا.
وحقيقةً، ففي سلطنة عُمان الوضع ليس أقلَّ إثارة للقلقِ. حيث سلَّطت دراسة أجْرَتْها وزارة الصحَّة عام ٢٠٢٣ الضَّوء على زيادة كبيرة في حالات العدوَى البكتيريَّة المقاوِمة للأدوية المُتعدِّدة، خصوصًا في المستشفيات. وشدَّدتِ النَّتائج على الحاجة المُلحَّة لِتَحسينِ برامج الإشراف على المضادَّات الحيويَّة وحمَلات التَّوعيَّة العامَّة.
لذلك يَجِبُ أن يعيَ المُجتمع وأفراده، أنَّه لا يقتصر تأثير مقاوَمة مضادَّات الميكروبات على المستشفيات، بل يمتدُّ ـ وبشكلٍ مؤسِف ـ إلى حياتنا اليوميَّة. تخيَّل معي طفلًا يُعاني منِ التِهابٍ في الحلْقِ ولا يستطيع التَّعافي؛ لأنَّ البكتيريا المُسبِّبة للعدوَى مقاوِمة للمضادَّات الحيويَّة. أو مريض السَّرطان الَّذي توقَّف علاجه الكيميائي؛ بسببِ التهاباتٍ تُهدِّد حياته ولا يُمكِن علاجها! فقصَّة ذلك المريض، الَّتي بدأت بجرحٍ بسيط، هي بمثابة تذكيرٍ صارخ لكيفيَّة تأثير مقاوَمة مضادَّات الميكروبات على الأفراد والأُسر. بل واجَه أطبَّاؤه الواقع المُدمِّر المتمثِّل في استنفاد جميع العلاجات المُتاحة. في حين تتذكَّر زوجة المريض كيف كانتْ تُشاهِد ابنهما الصَّغير وهو يتساءل: «متى سيتحسن والدي؟».
ولعلِّي أُكرِّر المعنى الحقيقي لهذا الموضوع؛ لأنَّه بشكلٍ وبآخر تُجرِّدنا مقاوَمة مضادَّات الميكروبات من اليقينِ الَّذي أصبحنا نربطه بالطِّب الحديث. كيف لا؟ وإجراءات مِثل زرع الأعضاء والعمليَّات القيصريَّة وحتَّى جراحات الأسنان تعتمد على المضادَّات الحيويَّة الفعَّالة لِمَنعِ العدوَى. وبِدُونِ هذه الأدوية، فإنَّ ما نعدُّه أمرًا مفروغًا مِنْه اليوم قد يُصبح مستحيلًا غدًا!
لذلك فإدراك العوامل الَّتي تُسهم في ارتفاع مقاوَمة مضادَّات الميكروبات مهمٌّ للغاية، لا سِيَّما وأنَّ الإفراط في استخدام المضادَّات الحيويَّة وإساءة استخدامها يُعَدُّ أحَد أهمِّ تلك العوامل. ففي بعض البلدانِ، تتوافر المضادَّات الحيويَّة بِدُونِ وصفة طبيَّة، ممَّا يؤدِّي إلى سُوء استخدامها على نطاق واسع. أمَّا عن الممارسات الزِّراعيَّة (فحدِّث ولا حرج!؟)، حيثُ تستخدم المضادَّات الحيويَّة في بعض الدوَل على نطاقٍ واسع في الماشية لِتَعزيزِ النُّمو والوقاية من الأمراض، وغالبًا ما تستخدم في الحيوانات السَّليمة. وبالتَّالي تُسهم هذه الممارسة في ظهور بكتيريا مقاوَمة يُمكِن أن تنتقلَ إلى الإنسان عن طريق الطَّعام.
ومن هنا يتطلَّب التَّصدِّي لمقاوَمة مضادَّات الميكروبات بذْلَ جهودٍ منسَّقة على كافَّة المستويات، من الأفراد إلى الحكومات والمُنظَّمات الدّوليَّة. فعلى سبيل المثال: برامج الإشراف على المضادَّات الحيويَّة تعمل على تعزيز الاستخدام المسؤول للمضادَّات الحيويَّة من قِبل مُقدِّمي الرِّعاية الصحيَّة والمَرضى. ففي سلطنة عُمان، نفَّذت وزارة الصحَّة العُمانيَّة مبادرات إشرافيَّة في المستشفيات، ممَّا أدَّى إلى تقليل إساءة استخدام المضادَّات الحيويَّة وتحسين نتائج المَرضَى. بل وإنَّ الوزارة تَقُومُ وبشكلٍ مستمرٍّ بحملاتِ التَّوعيَّة العامَّة، وتثقيف الجمهور حَوْلَ مخاطر مقاوَمة مضادَّات الميكروبات وأهميَّة استكمال الفترة الزَّمنيَّة المُحدَّدة للمضادَّات الحيويَّة الموصوفة لِمَا للأمْرِ من أهميَّة بالغة على صحَّة الفرد ونظامنا الصحِّي.
ختامًا، نحن نقفُ على مفترق طُرق، وأحَد المسارَيْنِ يؤدِّي إلى مستقبل، حيث تشلُّ المقاوَمة تلك الطِّب، والآخر يؤدِّي إلى عالَم نرتقي فيه إلى مستوَى التَّحدِّي من خلال التَّثقيف وإدراك مخاطر مقاوَمة مضادَّات الميكروبات. وعَلَيْه فلنعمل ليس من أجْلِ أنْفُسنا فحسب، بل من أجْلِ الأجيال القادمة الَّتي تستحقُّ عالَمًا لا تُشكِّل فيه العدوَى البسيطة حكمًا بالموت!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي