وُلدتُ في حقبة زمنيَّة انتقاليَّة شهدتْ نهايات وبدايات ثَورات صناعيَّة مختلفة. كنتُ شاهدًا على ختام الثَّورة الصِّناعيَّة الثَّانية الَّتي بُنيتْ على السّكك الحديديَّة، والصُّلب، والكهرباء، والبترول، والثَّورة الصِّناعيَّة الثَّالثة الَّتي انطلقت في منتصف التسعينيَّات، حيث أحدَثَ الحاسب الآلي والتكنولوجيا الرَّقميَّة نقلةً نوعيَّة في العالَم. واليوم، أجدُ نَفْسي أمام تحدٍّ جديد يتمثل في مُواكبةِ الثَّورة الصِّناعيَّة الرَّابعة، الَّتي تعتمد بشكلٍ رئيسٍ على الذَّكاء الاصطناعي وتقنيَّات أخرى مِثل إنترنت الأشياء والرّوبوتات، فأنا من جيلٍ قضَى طفولته بَيْنَ الألعاب الجماعيَّة الَّتي صنعناها بأيدينا، ولم يكُنِ العالَم متاحًا لنَا إلَّا من خلال التلفزيون أو التَّجارب الواقعيَّة، ولكن مع ظهور الحاسب الآلي ثمَّ الإنترنت، تغيَّرت طريقتنا في التَّعلُّم والتَّواصُل. ومع دخول الذَّكاء الاصطناعي إلى حياتنا، أشعُر كأنِّي مضطرٌّ للتَّعامل مع عالَمٍ جديد تمامًا، عالَم يُثير في داخلي خليطًا من الفضول والخوف.
مصدر خوفي ليس فقط التَّطوُّر التكنولوجي نَفْسه، بل ما قد يُحدِثه هذا التَّطوُّر في النَّسيج الاجتماعي والنَّفْسي للإنسان، لقَدْ رأينا كيف أثَّر الحاسب الآلي والهواتف الذَّكيَّة على حياتنا الاجتماعيَّة، حيث فقدَتِ الأُسرة الكثير من سيطرتها على تربية الأجيال الجديدة. الآن، يظهر الذَّكاء الاصطناعي لِيُضيفَ مزيدًا من التَّعقيد: شبابٌ يتحدثون مع «أصدقاء صناعيِّين» يعتمدون على الذَّكاء الاصطناعي، ويجدونَ فِيهم توافقًا يتجاوز العلاقات الإنسانيَّة التَّقليديَّة، وهذه العلاقات الجديدة قد تُسهم في زيادة عُزلة البَشَر. مِثلما شهدنا ارتباط الاكتئاب والقلق بانتشارِ التكنولوجيا الحديثة بحقبةِ الحاسب الآلي والهواتف الذَّكيَّة، قد نشهدُ أمراضًا نفسيَّة جديدة ناتجة عن الاعتماد المُفرط على الذَّكاء الاصطناعي، وشدَّة الارتباط به.
رغم أنَّ الذَّكاء الاصطناعي الحالي لا يمتلك الوعي أو الإدراك أو المشاعر الإنسانيَّة الَّتي قد تجعلُه خطرًا وجوديًّا على البَشَريَّة، فإنَّ التَّطوُّر السَّريع الَّذي نشهدُه يُثير قلقي لسببَيْنِ رئيسَيْنِ الأوَّل هو التَّطوُّر المُتسارع: فنحن نجهل حدود هذا التَّطوُّر وإلى أيِّ مدى قد يصل. فماذا لو امتلك الذَّكاء الاصطناعي يومًا ما وعيًا وإدراكًا ومشاعر إنسانيَّة؟ وإذا لم يكُنْ هذا الذَّكاء مرتبطًا بقِيَم أو ضوابط أخلاقيَّة، فقد يتسبَّب في استغلال قدراته بطُرقٍ خاطئة وخطيرة، والثَّاني يأتي في سياق إساءة الاستخدام، حتَّى في حال بَقِيَ الذَّكاء الاصطناعي أداةً تحت سَيطرة الإنسان، فإنَّ إتاحتَه للجميع قد تجعل من السَّهل وقوعه في أيدٍ خاطئة، تستخدمه في تدمير العالَم بدلًا من خدمته.لكن، بعيدًا عن المخاوف، يَجِبُ أن نعترفَ بأنَّ الذَّكاء الاصطناعي هو مفتاح التَّطوُّر الَّذي سيُحدِّد مكانتنا بَيْنَ الدوَل المتقدِّمة. إذا أحسنَّا استغلاله، فقد يُصبح وسيلةً لِتَحسينِ جودة الحياة، من خلال تطوير الطِّب، التَّعليم، والطَّاقة. أمَّا إذا تجاهلناه أو تعامَلْنا معه بخوفٍ فقط، فسنجد أنْفُسنا في مؤخرة الرَّكب كما حدَث مع ثَورات سابقة، عَلَيْنا أن نستثمرَ الوقت والجهد لِفَهمِ التَّأثيرات الاجتماعيَّة والنَّفْسيَّة للذَّكاء الاصطناعي، ويَجِبُ أن نعملَ على وضعِ ضوابط أخلاقيَّة وقانونيَّة لاستخدام هذه التقنيَّة، وأن نُهيئَ الأجيال القادمة للتَّعامل مع هذا العالَم الجديد، في النِّهاية، الذَّكاء الاصطناعي حتَّى الآن ليس عدوًّا، لكنَّه أداة تحمل في طيَّاتها فرصًا وتحدِّيات، ونجاحنا في التَّعامل معها يعتمد على وعيِنا وإدراكنا، وعلى قدرتنا على وضع توازن بَيْنَ التَّقدُّم التِّقني والحفاظ على القِيَم الإنسانيَّة.
إبراهيم بدوي