الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 م - 22 جمادى الآخرة 1446 هـ
أخبار عاجلة

الحفيد والزحمة والموروث الشعبي

الحفيد والزحمة والموروث الشعبي
الاثنين - 23 ديسمبر 2024 03:06 م

محمد عبد الصادق

40


أستعدُّ لاستقبال حفيدي الأوَّل خلال أيَّام، متحمِّس لقدوم الوافد الجديد، ومن أجْلِ عيونه سافرتُ إلى مصر؛ لشراءِ بعض لوازم الاحتفال بمقدمِه المنتظر على الطَّريقة المصريَّة، وطالَما كنتُ حريصًا على الطقوس والعادات والتَّقاليد المرتبطة بمِثل هذه المناسبات المبهِجة، مِثل «السبوع» وهو احتفاليَّة تقام بعد أُسبوع من الولادة، وفيها يوضع المولود في «الغربال» وهو شبيهٌ بالمنخل الَّذي يستخدم لفصلِ الدَّقيق عن النّخالة، ولكن حجمه أكبر وخيوطه غليظة. يجتمع الأهل والأقارب حَوْلَ الغربال، وتبدأ الجدَّة أو أكبر النِّساء سنًّا، في «قرع الهون»، وتُملي على أسماع الصَّغير، الَّذي رُبَّما لا يدري ما يَدُور من حَوْلِه، نصائح وأوامر ونواهٍ، من قَبيل «اسمع كلام أبيك»، ويحمل الأطفال الشُّموع ويطوفون حَوْلَ الصَّغير، وهُمْ يُردِّدون الأغاني والأهازيج الشَّعبيَّة، من قَبيل «حلاقاتك برجالاتك»، ويتمُّ توزيع أكواب «الموغات» السَّاخنة وهو مسحوق مصنوع من عشبٍ ينمو في الهند، ويتمُّ تحضيره بإضافة السَّمن البلدي والمكسَّرات، ويُقال إنَّه غني بالفوائد الصحيَّة، ويعطي طاقة كبيرة للأُمِّ لِتتمكَّنَ من إرضاع صغيرها، كما أنَّه مشروب شتوي يمنح الدِّفء في ليالي الشِّتاء القارسة، كما يتمُّ إعداد حقائب صغيرة مُلوَّنة، تُعبَّأ بالحلوى وداخلها ورقة صغيرة، تؤرخ لاسمِ وتاريخِ ميلاد صاحب «السبوع»، وتحرص الأُمَّهات الحاضرات على إعطاء صغارهنَّ هديَّة المولود ليضعوها في الغربال بأنْفُسهم، لكَيْ يتعودوا على ثقافة التَّهادي.

في السَّنوات الأخيرة ومع غلَبةِ التَّديُّن والتَّحسُّس الدِّيني، شهد طقس «السبوع» تراجعًا وتهميشًا كبيرًا، وعَدَّه البعض «بدعة»، واستبدله كثير من المصريِّين بالـ»العقيقة»، وهي إحياء لسنَّةٍ محمودة، وفيها إطعام للمساكين، ولكنَّها ـ في رأيي ـ لا تغني عن «السبوع»؛ لأنَّ المستهدفَ مِنْها الكبار واليافعين الَّذين يلتفون حَوْلَ صينيَّة مليئة باللَّحم والشَّحم والأرز، يلتهمونها وينصرفون، دُونَ أدْنَى مراعاة لمشاعر الأطفال دُونَ الخامسة، الَّذين لا يعنيهم سوى اللَّعب واللَّهو والانطلاق، وهُمُ الأبطال الحقيقيون لمِثل هذه الاحتفاليَّة، ورغم سني عمري الَّتي تعدَّتِ الستِّين، ما زالت ذاكرتي، تحتفظ بلقطاتٍ من «سبوع» إخوتي الصِّغار وأقاربي، وأولادي، والَّذي حرصت على الاحتفال بمقدمهم بالطَّريقة ذاتها، وما زالتْ ألبومات الصوَر والفيديوهات تسجِّل أحداثه.

من أجْلِ الحفيد المنتظر، قرَّرتُ أن أذهبَ إلى أكثر مكان ازدحامًا في مصر، منطقة الحسين والعتبة والموسكي، مختتمًا بـ»درب البربرة» وهو سُوق مختصٌّ ببيع أدوات الزِّينة والإكسسوارات المنزليَّة، والنَّجف والأنتيكات، وبما أنَّ «الغربال» القديم اختفى، وأصبحَ من الصَّعب صناعته يدويًّا، فقد ظهر «غربال» مصنوع من مواد بلاستيكيَّة مغطَّاة بشرائط زاهية، ومزوَّد بالإضاءة المُلوَّنة، ومغطًّى بشمسيَّة، أو ناموسيَّة تليقُ بمواليد العصر الحديث، و»الهون» أصبحَ أقلَّ وزنًا، ومصنوع من مواد صناعيَّة، بعدما اختفى الهون النّحاس الَّذي كانت تصدر عَنْه أصوات مميَّزة، تُحدث جلَبة تطير النَّوم من عَيْنَي المولود، وتصنع إيقاعًا يقفز على نغماته الأطفال.

منطقة العتبة مزدحمة منذُ الأزل، فهي منطقة تجاريَّة بامتياز، هنا يباعُ كُلُّ شيء بأسعار زهيدة، الملابس والأقمشة والمفروشات، الأثاث والأجهزة المنزليَّة والأدوات الكهربائيَّة، الدرَّاجات الهوائيَّة، العطارة والمكسَّرات، لعب الأطفال..إلخ، المُشْكلة أنَّ الباعةَ الجائلين استولوا على نهر الطَّريق، وأغلقوا الشَّوارع في وجْهِ المارَّة والسيَّارات، وفوجئتُ أنَّ أصحاب المحالِّ، بعدما يئسوا من مزاحمة الباعة الجائلين، قرَّروا تركَ محالِّهم، ونصبَ «ستاندات» أمام محالِّهم، أسوة بالباعة الجائلين، بعدما عجز الزَّبائن عن الوصول إِلَيْهم.

رغم هذا الزّحام الشَّديد، تظلُّ القاهرة القديمة، لها عبَق ورائحة مختلفة، بمبانيها العريقة، وأزقَّتها وحواريها، وطِيبة أهلِها، وأبوابها المفتوحة للزائرين، هنا تُشاهد السُّوداني والسُّوري واللِّيبي واليمني، والخليجي، الإفريقي والأوروبي والأميركي والآسيوي واللاتيني، الكُلُّ يتجوَّل وعلى محيَّاه ابتسامة تُنبئ عن شعور عظيم بالسَّعادة والأمن والسَّلام والسَّكينة.

محمد عبد الصادق

[email protected]

كاتب صحفي مصري