السبت 27 يوليو 2024 م - 21 محرم 1446 هـ

آية الإسراء.. «قراءة تحليلية بلاغية وتربوية» «4»

الأربعاء - 31 يناير 2024 05:35 م
80

.. وتباعد حروف الكلمة:(أ ق ص ى) تدل على تجشُّم الطريق، وبُعْد المسافة، وتوضِّح العقبات التي يقطعها المسافرُ حتى يصلَ، فقد تحمَّلت كلمة:(الأقصى) مشوارَ الألفباء كُلِّهِ، حتى بدأت بالهمزة، وهي حنجرية، وأول حروف الأبجدية العربية، ومرَّتْ بالقاف الصعبة الجهورية، حرف الاستعلاء، والتفخيم المبيِّن لصلابة الطريق، ووعورته، والصاد الصفيرية المفخمة، العالية الصوت، ثم انتهتْ بحرف الألف المقصورة التي هي آخر حروف الأبجدية العربية، فبيَّنت الكلمة طولَ الطريق، ووعورةَ السير فيه، وتجشُّم صعابه، والسير في فيافيه، وشعابه، لكن ذلك عند الله انتهى في لا زمن لعظمة الله، وأنه لا يعالج الأمور كما نعالجها نحن، بل أمره بين الكاف والنون، فهو أسرع ما يكون، وأعجل ما يحدث في هذا الكون.

وقوله: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) اسم الموصول هنا صفة للمسجد الأقصى، وهي كناية عن سعة عطاء الله، وجليل كرمه للمكان، وما حوله، والموصول مع صلته شيءٌ واحدٌ، كما أن الموصوف مع صفته كالشيء الواحد أيضًا، وقوله:(باركنا) هو كناية عن عظيم البركة؛ حيث إن الذي وضع البركة هو خالق البركة، وعلى قدر المنعم تأتي عظمةُ النعمة، ولم يقل: (باركناه) حتى لا تكون البركة في المسجد فقط، وإنما قال:(باركنا حوله)، فشملتِ البركةُ المسجدَ، وما يحيط به، والناظرُ حول المسجد الأقصى يرى الآية واضحةً عيانا بيانا لكل ذي عينين، وفؤاد، وشفتين، فالبركة في كل مكان حوله، حيث ترى المحلات، والمصانع، والمتاجر، والورود، والزهور، وسعة الأرزاق، وكمال الأخلاق، وفيه كل ما تتمناه النفس، وتهواه، وتأمله، وتذكره، ولا تنساه، إنها بركة عامة، تشمل كل شبر فيه، وفيما حوله، والهاء (حوله) رابطة ما قبلها، وما بعدها، وهو كناية عن عموم البركة فيه، وفي كل ما حوله، فترى هناك الأشجار، والأنهار، والخصب الدائم، والنعيم المتواصل، والبركة المستمرة، وفيها منازل الأنبياء (عليهم السلام)، وهي في الوقت نفسه كنايةٌ عن نسبة، كما تقول:(يمشي المجدُ في ركاب الأمير)، فما دام يمشي المجد في ركابه، إذن فهو ـ أي الأمير نفسه ـ ماجد، وكما تقول:(يتحرك الكرمُ حيث يمضي)، إذن فهو كريم، ما دام الكرم يتحرك معه فهو أكثر كرمًا منه، فإذا قال:(باركنا حوله)، فهو من باب أولى مباركٌ، ويمتلئ بالبركة، وتفيض، فتعم بفيضانها ما حول المسجد الأقصى، فهي كناية عن نسبة، كما يقول أهل البلاغة، ثم تأتي الغاية، والمقصد من تلك الرحلة العظيمة الأرضية السماوية في قوله تعالى:(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فالعلة، والسبب الذي لأجله أُسْرِيَ بشخصه الشريف أن الله تعالى يُرِيهِ من آياته الكبرى، وعلاماته العظمى ما يبيِّن له صدق الرسالة، وكمال البعث، وجلال النبوة، فاللام للتعليل، وبيان الأجلية، والعلة، والغائية، و(نُرِيَ) فعل مضارع رباعي من الماضي:(أراه يُرِيه إراءةً)، فأصلها (نُرْئِيَهُ)ن ثم حدث لها إعلال بالحذف في الهمزة من الفعل (أرى) الرباعي الذي أصله (أرأى)، وحذفت همزته لكثرة الاستعمال، وللعلل الصرفية المعروفة، ولكنَّ معنى (نريه) بالهمزة المحذوفة نُقْدِرُهُ على الإراءة؛ لأنه ببشريته لا يمكن أن يرى تلك المرائي السماوية الكثيرة، ولا أن يتفهمها، فاصطحبه جبريل (عليه السلام)، وكان يفسِّرها له بعد سؤاله، وقوله:(ما هذا يا أخي يا جبريل؟)، فيعود عليه بتفسيرها، وتوضيحها، فيدركها (صلى الله عليه وسلم)، فهو ببشريته لا يمكن أن يراها، ولا أن يتفهمَ فحواها، ولا أن يفسِّر مغزاها، ويتولى سيدنا جبريل (عليه السلام) بيانها، وإفهامها إياه، وتوضيحها له.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية