الاثنين 23 ديسمبر 2024 م - 21 جمادى الآخرة 1446 هـ
أخبار عاجلة

دول مجلس التعاون: مخاطر التجارة المستترة تحت عباءة وكالات الاستخبارات والمنظمات الإرهابية

دول مجلس التعاون: مخاطر التجارة المستترة تحت عباءة وكالات الاستخبارات والمنظمات الإرهابية
الأحد - 22 ديسمبر 2024 03:24 م

محمد بن سعيد الفطيسي

قَبل أنْ أدخلَ في صلبِ الموضوع، كان من المُهمِّ تعريف أو تفصيل المقصود بالعنوان أوَّلًا، فما الَّذي أقصدُه بالتِّجارة المُستترة الَّتي تعمل تحت عباءة وكالات الاستخبارات والمُنظَّمات الإرهابيَّة؟

لا شَكَّ أنَّ أغْلَبَ دوَل العالَمِ، خصوصًا الدوَل الكُبرى مِنْها تطمح للوصول إلى مواطن الثَّروات الطَّبيعيَّة في مختلف أرجاء الأرض مِثل النِّفط ومشتقَّاته والمعادن المختلفة وغيرها ممَّا يُمكِن الاستفادة مِنْها لرفدِ موازناتها الماليَّة، بالإضافة إلى سعيِها المستمرِّ للسَّيطرة على صناعة القرار المتعلِّق بتلك الثَّروات والموارد الطَّبيعيَّة، عَبْرَ السَّيطرة على المؤسَّسات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة أو على صنَّاع القرار في تلك المؤسَّسات والدوَل.

كما قد تتعرض بعض الدوَل لإشكاليَّات قانونيَّة دوليَّة أو عقوبات اقتصاديَّة مِثل (إيران وكوريا الشَّماليَّة وروسيا وأوكرانيا و»إسرائيل» على سبيل المثال لا الحصر) فتسعَى إلى الإفلات من تلك العقوبات عَبْرَ أدواتِ السِّياسة والاقتصاد، فما تعجزُ عَنْه الدَّولة قانونًا بسببِ تلك التَّحدِّيات والمشاكل القانونيَّة والسِّياسيَّة، يُمكِن تعويضُه بشخصيَّات أو بوكالات أُخرى يُمكِن من خلالها الإفلات من تلك العقوبات أو تمرير تلك الأموال أو التِّجارة المُستترة، وذلك عَبْرَ التَّعاقد معها أو رشوتها أو تجنيدها لصالحِها، أو غير ذلك من الوسائل القانونيَّة أو غير القانونيَّة.

بالتَّالي فإنَّ من الطَّبيعي أنْ تعملَ وكالات الاستخبارات التَّابعة لتلك الدوَل على زرعِ عملائها أو الشَّخصيَّات التَّابعة لها من مواطنيها أو حتَّى من شخصيَّات الدوَل الأُخرى (مواطني الدوَل المستهدفة، خصوصًا أصحاب القرار من الشَّخصيَّات التِّجاريَّة والاقتصاديَّة، أو أصحاب العلاقات والنُّفوذ السِّياسي) في البيئة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة عَبْرَ تعزيزِ دَوْرهم ومكانتهم سياسيًّا وماليًّا. في الجانب الآخر تتشارك مع وكالات الاستخبارات ذلك الهدف العديد من المُنظَّمات الإرهابيَّة أو الإجراميَّة الَّتي أصبحَ لها سجلَّات تجاريَّة أو وكلاء تجاريِّين في مختلف الدوَل المستهدفة.

إذًا نتَّفق على وجود مواطني دوَل أجنبيَّة يعملون في الأصل بوكالات استخبارات تلك الدوَل تمَّ زراعتهم في دوَلٍ أخرى تملك الثَّروات والموارد بهدف السَّيطرة على هذه الأخيرة بشكلٍ غير مباشر عَبْرَ السَّيطرة على القرار الاقتصادي أو التِّجاري أو القرار السِّياسي. وقد يتحقَّق ذلك الهدف عَبْرَ شخصيَّات من مواطني الدوَل المستهدفة نَفْسِها ـ كما سبَق الإشارة إلى ذلك ـ يتمُّ العمل عَلَيْهم لسنواتٍ عَبْرَ وسائل مختلفة كالرشاوى أو عَبْرَ وسائل في ظاهرها طبيعيَّة مِثل الدَّعوات والتَّبادلات التِّجاريَّة وغير ذلك. في الجانب الآخر تمكنتِ العديدُ من التَّنظيمات الإرهابيَّة من الاندماج في بعض الدوَل ضعيفة البنية الأمنيَّة؛ بسببِ الصِّراعات والحروب الدَّاخليَّة والفساد عَبْرَ العمل في الأنشطة التِّجاريَّة والاقتصاديَّة مِثل «داعش» وتنظيم القاعدة وبوكو حرام، كما تمكَّن البعض الآخر مِنْها من التَّوَغُّل إلى البنية الاقتصاديَّة لبعض الدوَل المستهدفة عَبْرَ أطرافٍ ثالثة أو العمل مع المُنظَّمات الإجراميَّة الوطنيَّة مِثل تجَّار المخدِّرات والسِّلاح وحتَّى وكالات الاستخبارات الدّوليَّة. الخلاصة: إنَّ العديدَ من المُنظَّمات الإرهابيَّة اليوم تعمل في أنشطةٍ تجاريَّة قانونيَّة وغير قانونيَّة.

وعِندَما نتكلَّم عن أبرزِ الدوَل الَّتي يُمكِن أنْ تكُونَ مستهدفةً من هذه المخاطر والتَّهديدات، فبِكُلِّ وضوحٍ تبرزُ لنَا دوَل مجلس التَّعاون الخليجيّ، الدوَل ذات البيئة الأكثر استقرارًا سياسيًّا وأمنيًّا (داخليًّا) في العالَم اليوم، والَّتي تملكُ مواطن الثَّراء والثَّروات الطَّبيعيَّة مِثل النِّفط والغاز المعادن، بالرَّغم من أنَّ تلك الدوَل الخليجيَّة تقع في بقعة جغرافيَّة شديدة المخاطر والتَّهديدات والملفَّات المُعقَّدة والسَّاخنة والَّتي تدفعُ جوارها إلى التَّفكير بها كموطنٍ للإفلاتِ من العقوبات الاقتصاديَّة أو لِتَعزيزِ أنشطتِها التِّجاريَّة والاقتصاديَّة أو لزراعة العملاء؛ بهدف تدمير بنيتها الاقتصاديَّة أو تحقيق أهدافها الدَّنيئة ضدَّ تلك الدوَل.

إذًا كيف تعمل استخبارات تلك الدوَل والمُنظَّمات الإجراميَّة؟ وما أدواتها ووسائلها لِتَحقيقِ أهدافها السِّياسيَّة والاقتصاديَّة في دوَل مجلس التَّعاون الخليجيّ؟

من أهمِّ الوسائل والأدوات المُتاحة قانونًا هي فتحُ سجلَّات تجاريَّة لشركاتٍ ومؤسَّسات تجاريَّة وفي مختلف المجالات وفروع العمل التِّجاري في الدَّولة المستهدفة، وتعزيز الشَّخصيَّات التَّابعة لها من تجَّار وأصحاب سجلَّات تجاريَّة، ودعمهم ماليًّا حتَّى يكُونَ لَهُمُ الثّقل والمكانة التِّجاريَّة في تلك الدوَل المستهدَفة، كما تَقُوم وكالات الاستخبارات التَّابعة لتلك الدوَل بتمرير أجنداتها عَبْرَ سفاراتها من خلال المطالبة لتلك الفئة من التجَّار ورجال الأعمال ببعض الميزات التِّجاريَّة وإعطائهم ثقلًا سياسيًّا وحصانات وغير ذلك من أدوات التَّمكين القانوني والضَّغط السِّياسي، وكما تعمل وكالات الاستخبارات تعمل المُنظَّمات الإرهابيَّة، ولكن بشكلٍ أقلَّ وأكثرَ حذرًا، ولكنَّها ـ بلا شك ـ تمكَّنت من الحصول على موطئ قَدَمٍ لها عَبْرَ بعض الشَّخصيَّات النَّافذة والتِّجارة العابرة للحدود الوطنيَّة.

من أهمِّ أشكال التِّجارة المُستترة الَّتي يُمكِن أنْ تعملَ عَلَيْها وكالات الاستخبارات العالميَّة في دوَل مجلس التَّعاون الخليجيّ هي الأنشطة البنكيَّة (البنوك والصّرافة والعملات)، والأنشطة التِّجاريَّة التَّعليميَّة والتَّدريبيَّة كالمدارس والكُليَّات والجامعات أو عَبْرَ عَقدِ المؤتمرات والنَّدوات؛ توثيق الرَّوابط الثَّقافيَّة والمذهبيَّة بَيْنَ المؤسَّسات التَّعليميَّة والأكاديميَّة؛ الصِّناعات النِّفطيَّة، والكهرباء، وخطوط النَّقل (الموانئ والمطارات والسِّكك الحديد)؛ والعقارات والزِّراعة، وترميم المصانع، الَّتي تعرَّضتْ للتَّلف وتعطَّلتْ خطوطها الإنتاجيَّة، يُضاف إلى ذلك الأعمال الخاصَّة بصيانة المَركبات وتجارة الفواكه والخضراوات والمواشي وغير ذلك؛ والغاية من ذلك السَّيطرة على عمليَّة الإنتاج وعلى الأصول الاقتصاديَّة الاستراتيجيَّة.

مع التَّأكيد على أنَّ الأهداف الاستراتيجيَّة لتلك الدوَل ليسَتْ بالضَّرورة أنْ تكُونَ تجاريَّة بحتة، بل رُبَّما تكُونُ التِّجارة هي النَّافذة أو الغطاء القانوني لِتَنفيذِ أهداف قوميةٍ أو عُليا أوسع وأشدّ خطرًا مِثل الأهداف الأيديولوجيَّة (التَّصدير المذهبي والعِرقي) وتصدير المشاكل (الاحتجاجات والمظاهرات) وتغيير ديموغرافيا السكَّان والأفكار، وقد يكُونُ الهدف من وراء تلك التِّجارة وتمكين رجال اقتصاد تلك الدوَل في الدوَل المستهدَفة هو إضعاف الأنظمة السِّياسيَّة الخليجيَّة.

خلاصة القول: لا بُدَّ من تسليط الضَّوء بشكلٍ أوسع على هذا النَّوع من التَّوَجُّهات والسِّياسات المشبوهة والَّتي تُنفَّذ عَبْرَ أدوات السِّياسة والاقتصاد، من خلال الدِّراسة والبحوث والعمل الميداني، كما أنَّه من الضَّروري المتابعة الاستخباراتيَّة والأمنيَّة لأيِّ أعمال غير قانونيَّة أو تحرُّكات غير مقبولة لرجالات المال والأعمال والأنشطة والسجلَّات التِّجاريَّة والمؤسَّسات التَّابعة لتلك الدوَل، وبكُلِّ تأكيد تشديد الرَّقابة على جرائم مِثل غسيل الأموال والأعمال الَّتي تدخل في تمويل الإرهاب والمُنظَّمات الإرهابيَّة.

محمد بن سعيد الفطيسي

باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

[email protected]

MSHD999 @