السبت 21 ديسمبر 2024 م - 19 جمادى الآخرة 1446 هـ
أخبار عاجلة

نبض طبيب : طفولة بجروح لا تلتئم

نبض طبيب : طفولة بجروح لا تلتئم
السبت - 21 ديسمبر 2024 05:13 م

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

10


أيُّها الآباء مُرَبُّو الأجيال وصنَّاع المستقبل، أطفالُكم لَبِنات مبتدئة أنتُم مَن تنسجون هُوِيَّتهم لرسمِ ملامح الغد. فالتَّنشئة رحلة يُبنى فيها الإنسان بصَقْلِ النُّفوسِ وإيقاظِ العقول، وتؤسَّسُ فيها الأجيالُ بترسيخِ الفضائلِ، وتعزيزِ القِيَم، فصناعة الفرد تتجاوز توفير الاحتياجات الماديَّة إلى غرس انتمائه وتشييد عُمقه الإنساني.

في مشهدٍ دامٍ، ذلك الشَّاب يجرُّ أثقالًا من الخَيبةِ، وذيولًا من الوجعِ، يحملُ على أكتافه بقايا طفلٍ متصدِّعٍ في جَوفه، مُشوَّه الرُّوح بمدًى ضيِّق بَيْنَ رفْعِ العصا وارتطامِها بجسدِه النَّحيل.. هشَّمتْ سياطُ العقابِ كرامتَه قَبْلَ جِلْدِه لِتخلقَ مِنْه إنسانًا باهتًا بحشرجاتٍ صاخبةٍ لم يستطعِ الهربَ مِنْها. فذاكِرتُه تلتهمُه بأوجاعٍ غيرِ قابلةٍ للنِّسيان، يُحدِّقُ في اللا شيء، يسترجعُ تفاصيلَ طفولتِه الَّتي تفترسُه كوحشٍ جائعٍ بأنيابٍ مسنونة، وتهمسُ في أُذنِه بأنَّه غيرُ مرغوبٍ لِتطبعَ ندوبًا شلَّتْ إدراكَه ومزَّقتْه إلى شظايا مُبعثَرة، فيقفَ طوعًا بحرقةِ المهانة، ويرضخُ لضربِ والدِه عمرًا كاملًا كعَلَمٍ مزَّقتْه الرِّياح وما زال يرفرفُ على ناصيةِ ضياعِه.. تجرَّعَ مرارةَ الصَّفعةِ الأُولى بذريعةٍ كبيرة لِيصيحَ بعدَها جسدُه ساحةً مستباحة تتوالَى عَلَيْها الصَّفعاتُ لأتْفَهِ الأسباب.

قضَى طفولتَه بمشاعرَ مكبوتةٍ في زوايا الغُرفِ المُظلمة بَيْنَ فقدانِ الثِّقةِ والقلق، فكانَ صامتًا بملامحَ بائسةٍ، يخشَى أنْ يُطيلَ النَّظرَ في عَيْنَي والدِه بصوتٍ مبحوحٍ أنهَكَه الضَّنى لا يقوَى حتَّى على الحُلمِ بمستقبلٍ مُشرِق؛ لِيكبرَ في عزلةٍ عاطفيَّة، وتكبرَ معه تلك الجراح الغائرة كغضبٍ مكبوتٍ يفتكُ بالقادم من أيَّامه، فتخلقَ شخصًا عدوانيًّا لم يَعْتدِ الحُبَّ، فكيفَ بفاقدِ الشَّيء أنْ يُعطيَه. فالعنفُ بدأَ معَه في بَيْتِه لِينتهيَ به عنيفًا في محيطِه وبَيْنَ أقرانِه، فمَنِ اعتادَ على شرخٍ في الكرامةِ سيُمرِّرها لِمَنْ حَوْلَه.

لِنتوقَّفَ عِندَ حديث لرسولِ اللهِ عَلَيْه وسلَّم: (مُروا أولادَكم بالصَّلاةِ وهُمْ أبناءُ سَبعِ سنينَ، واضْرِبوهُمْ عَلَيْها وهُمْ أبناءُ عَشْرٍ) الَّذي قد يُثيرُ فِينا تساؤلاتٍ عن منهجِ التَّربيةِ المُحمديَّة. فالحديثُ لا يؤجِّجُ التَّعنيفَ، بل يضعُ أُسُسًا للتَّربيةِ الَّتي تبدأُ بالتَّرغيبِ والتَّذكير، والضَّربُ كخطوةٍ توجيهيَّة مشروطةٍ بضوابطَ صارمةٍ من أجْلِ التَّنبيهِ وألَّا تُسبِّبَ الإيذاءَ. ويستلزمُ فَهْمُ هذا السِّياقِ بربطِه بمقاصدِ الشَّريعةِ القائمة على الاعتدالِ، وبعُمقِ السِّيرةِ النَّبويَّة العَطِرَةِ، حيثُ إنَّ رسولَنا الأعظمَ لَمْ يُروَ عَنْه أنَّه رفعَ يَدَهُ قَطُّ على امرأةٍ ولا على طفل. فكان الرِّفقُ والرَّحمة منهجيَّتَه المُتكاملةَ كوسيلةٍ للتَّربيةِ، ولْنستحضِرْ مشاهدَ من حياتِه تنبضُ بالرَّأفةِ والحُنوِّ في تعاطيهِ معَ القمرَيْنِ (رَيْحانَتَي رسولِ الله) حفيدَيْه الحَسَنِ والحُسَين.

أطفالُنا هُمُ انعكاسٌ لِمَا نزرعُ، فَلْنُضِئ قناديلَ أرواحِهم بالاحتواءِ المُغلَّفِ بالرَّحمة.. أيُّها الأبُ مدَّ جسورَ كلماتِك بلسانٍ مليء بالرِّفقِ والثَّناء، ولا تترُكِ نيرانَ غضبِك تَلْتَهمُ البنيانَ وأسوارَ الأمانِ الَّذي شيَّدْتَه عمرًا، ولْتكُنْ دعامةً يتَّكئُ عَلَيْها طِفلُك لا أوجاعَ يئنُّ مِنْها، ولْتَستدرِك لُغةُ القلوبِ لحظاتِ غَيْظِك، وتُنِرْ عتمةَ المواقفِ بالتَّوجيهِ اللَّطيفِ، ولْتُتقِنْ فنَّ نَحْتِ الرُّوحِ وبناءِ أعمدةِ شخصيَّتِه؛ لِيُحلِّقَ بَعْدَها بجناحَيْنِ من ثِقةٍ، ولِيطيرَ في فضاءِ الحياةِ بثباتٍ وإبداع.

تذكَّرْ قَبْلَ أنْ ترفعَ يدَك لِتضربَ طفلًا، أنَّ تلكَ اليَدَ يُمكِنُ أنْ تهدمَ رُوحًا وتنتزعَ طمأنينةً، فلا تُطْفئ سنواتِهم العَذبةَ بقسوةِ اللَّحظةِ، مستنيرينَ بهدْيِ سَيِّدِ الخَلْقِ بعَطفِه على أهْلِ بَيْتَه؛ لِنُنشئَ جيلًا مُلتزمًا بالقُدوةِ الحسَنةِ والحوارِ عن قناعةٍ لا بالإكراهِ، ولا ترفَعْ كَفَّك إلَّا بالدُّعاءِ لَهُمْ بالخيرِ والصَّلاحِ.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

طبيبة وكاتبة عمانية