حطَّم رئيس الوزراء البريطاني كيير ستارمر الرَّقم القياسي في عدم رضا النَّاخِبِينَ عن حكمه في الأشْهُر الخمسة الأولى بنسبة استياء لم يتعرضْ لها رئيس وزراء في بريطانيا منذُ أكثر من نصف قرن. ففي أحدَث استطلاع أجرَتْه مؤسَّسة إبسوس جاءت نسبة رضا البريطانيِّين عن أداء حكومة العمَّال في الأشْهُر الماضية عِندَ (34) نقطة، أي أنَّ نَحْوَ ثُلثَي النَّاخِبِينَ البريطانيِّين غير راضين عن كيير ستارمر وحكومته. وهي نسبة لم يواجهها أيُّ رئيس حكومة منذُ السبعينيَّات، حتَّى بوريس جونسون وريشي سوناك كانتْ نسبة الرِّضا عن أدائهما في الأشْهُر الخمسة الأُولى في الحُكم أفضل من ذلك. الغريب أنَّ تلك النِّسبة لا تتَّسق إطلاقًا مع الفوز الكاسح الَّذي حقَّقه حزب العمَّال في انتخابات شهر يوليو الماضي. وهكذا يبدو أنَّ البريطانيِّين لم يبلعوا وَهْمَ «التَّغيير» الَّذي وعَدَ به ستارمر وحزبه بقدر ما كان تصويتهم له احتجاجًا على حزب المحافِظِين الَّذي كان أشرف على عَقدٍ ونِصْف في السُّلطة وأصبحت مشاكله لا تحتمل، من تجاهل للقانون ومعايير النَّزاهة إلى تدهور الأوضاع المعيشيَّة للبريطانيِّين.
مع ذلك، تفاءل البريطانيون بالحكومة الجديدة وإمكانيَّة تحسُّن أحوال المعيشة، خصوصًا وأنَّ شعارَ ستارمر وحزبه في حمْلته الانتخابيَّة كان إقالة الاقتصاد من عثرتِه وجعْلَه الأسرع نُموًّا بَيْنَ الدوَل المتقدِّمة. لكنَّ النَّاس فوجئتِ بالأرقام تتوالى حَوْلَ ركود الاقتصاد أو انكماشه (أي نُموه بالسَّلب) شهرًا بعد شَهْر، وعاد معدَّل التَّضخُّم للارتفاع بعدما كان ارتفاعه يتباطأ. وتُنذرُ التَّحليلات والتَّوقُّعات بارتفاعٍ في كلفة المعيشة العام القادم، خصوصًا مع عودة التَّضخُّم بقوَّة في أسعار الأغذية. هذا ما يهمُّ النَّاس العاديَّة ممَّن يصوِّتون في الانتخابات، أمَّا بالنِّسبة للاقتصاديِّين والمُحلِّلين فإنَّ الوضعَ ليس بأفضل حالًا. فالميزانيَّة الَّتي أعلنتها وزيرة الخزانة الجديدة نهاية شهْرِ أكتوبر، كأوَّل ميزانيَّة لحكومة العمَّال، تضمَّنت زيادة ضرائب بنَحْوِ أربعين مليار جِنِيه إسترليني. وهو ما أدَّى إلى تراجع ثقة المستثمرين في الاقتصاد البريطاني وشِبه تجميد للإنفاق الاستثماري على توسيع نشاط الشَّركات والأعمال. لم ينفعْ ستارمر ووزيرة خزانته إلقاء اللَّوم على حكومة المحافِظِين السَّابقة في تدهُور الأوضاع، خصوصًا وأنَّهم أعلنوا أنَّ الحكومة السَّابقة تركتْ فجوةً في الماليَّة العامَّة بأكثرَ من عشرين مليارًا لم تكنْ معروفة! وذلك في الواقع «عذرٌ أقبحُ من ذَنْبٍ»، فكيف لم تكنْ معروفة والمعارضة تتطلع على الأوضاع باستمرار.
هذا الشَّهر، تراجعَ ستارمر عن الهدف الأوَّل والأهمِّ لحكومته الَّذي ردَّده قَبل الانتخابات وهو تسريع النُّمو الاقتصادي. وطبيعي أن يتراجعَ السِّياسيون عن وعودهم الانتخابيَّة المبالَغ فيها، لكن ستارمر استبدل ذلك بهدف آخر وهو أن يزيدَ من الدَّخل الحقيقي للأُسر البريطانيَّة. طبعًا لن يكُونَ ذلك إلَّا عن طريق اقتراض الحكومة وزيادة الدَّيْن العامِّ وفجوة العجز في الميزانيَّة، كما أنَّ زيادةَ الأُجور دُونَ نُموٍّ اقتصادي كفيلة بإعادة الضُّغوط التَّضخُّميَّة ومع زيادة التَّضخُّم يُصبح الدَّخل أقلَّ من حيث القدرة الشّرائيَّة – أي في النِّهاية لا تتحسَّن الأحوال المعيشيَّة للنَّاس. حسب التَّعليقات والتَّحليلات، هناك المزيد من الأخبار السّلبيَّة الَّتي تنتظر حكومة حزب العمَّال في الفترة القادمة؛ أي أنَّ شَعبيَّةَ كيير ستارمر قد تتدهور أكثر العام القادم. يبحثُ ستارمر عن أيِّ إنجاز الآن، وفي هذا السِّياق يريد التَّفاوض مع الاتِّحاد الأوروبي على اتِّفاق الخروج (بريكست) الَّذي أضرَّ بالاقتصاد البريطاني بشدَّة. إنَّما مُشْكلة ستارمر أنَّه كان مع التَّصويت لصالحِ بريكست حين كان في المعارضة، وبالتَّالي فإنَّ أيَّ مكاسب سيسعَى لتحقيقِها من الجانب الأوروبي لن تكُونَ مجَّانيَّة، وإنَّما سيطلب الأوروبيون تنازلات بريطانيَّة مقابلها.
أوَّل تلك التَّنازلات ما تردَّد في الإعلام مؤخرًا بأنَّ المفوضيَّةَ الأوروبيَّة لن تُعِيدَ التَّفاوض بشأنِ الاتِّفاق التِّجاري مع بريطانيا بعد بريكست قَبل أن تتخلَّى بريطانيا عن تعديل قانون حقوق الصَّيد في المياه المشتركة، وتُعِيد الالتزام بالقانون الأوروبي وقواعده. وكان ذلك واحدًا من أهمِّ التَّغييرات الَّتي وعدَ بها البريطانيون إذا صوَّتوا لبريكست.
أمام البريطانيِّين خمس سنوات قَبل أن يتمكنوا من تغيير الحكومة في انتخابات عامَّة مُقبلة، طبعًا ما لم تحدُثْ أيُّ أُمور استثنائيَّة تؤدِّي إلى سقوطٍ مبكر لحكومة العمَّال. وسيكُونُ على كُلِّ مَن صوَّتوا لكيير ستارمر وحزبه أن يعيشوا على انكشاف وَهْمِ التَّغيير الَّذي وعدَ به كما أفاقوا على وَهْمِ المكاسب من البريكست بعد تصويتهم للخروج من أوروبا عام 2016 وتحقّق الخروج عام 2020. تلك في الواقع مُشْكلة الديموقراطيَّات التَّقليديَّة في السَّنوات الأخيرة وما تؤدِّي إِلَيْه بعدما يتصوَّر النَّاس أنَّهم مارسوا حقَّهم الطَّبيعي في التَّغيير لِيُفيقوا على وَهْمٍ كبير. ولعلَّ ما جرَى في كوريا الجنوبيَّة في الأسابيع الأخيرة دليل آخر على تدهوُر الديموقراطيَّات، إثْر محاولةِ رئيس البلاد وحزبه الانقلاب على البرلمان الَّذي تسيطر عَلَيْه المعارضة بعد انتخابات (ديموقراطيَّة) قَبل نَحْوَ عامَيْنِ. انكشاف النَّاخِبِينَ على وَهْمِ التَّغيير في الديموقراطيَّات الغربيَّة ليس بجديد، لكنَّه في هذه المرحلة يذكِّر بما حدَث في النِّصف الأوَّل من القرن الماضي حين جاءتِ الانتخابات بالفاشيَّة والنَّازيَّة إلى السُّلطة في أوروبا ما أدَّى إلى حربَيْنِ عالَميَّتَيْنِ أتَت على عشرات ملايين الضَّحايا. قد لا نكُونُ الآن بصددِ حربٍ عالَميَّة ثالثة، لكن تواتر انكشاف وَهْمِ التَّغيير هو مؤشِّر مُهمٌّ.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري