يقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، من امتثلَ لأمْرِ الله في الآية الكريمة وتحلَّى بالصَّبر وامتثلَ لقضاءِ اللهِ وقدرِه، فازَ بالثَّواب العظيم وما أعظمَ ما يبشِّر به العبد حين تأتي البُشرى من عِنْدِ الله، كما قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي بشِّرهم بأنَّهم يوفون أجْرَهم بغيرِ حساب، حين يسمع المرء خبر وفاة قريبٍ أو عزيزٍ لدَيْه تنتابُه الأحزان الَّتي قد تتحوَّل في بعض الأوقات إلى الكآبة وتجنُّب الحديث مع الآخرين، والبعض يدخل في دوَّامة الانعزال؛ لِمَ لا؟ والمَصاب جلَل. إلَّا أنَّ الله سبحانه وتعالى كما يُصيبنا بالموت يُخفِّف عَنَّا الأمْرَ بصبرِ المؤمنين وتقبُّلهم لأمرِه تعالى، ممَّا يساعد على تخفيف الأحزان ونسيان مرارة الفراق مع مرور الوقت، خصوصًا إذا كان المتلقي مؤمنًا يعلمُ أنَّ الموتَ حقٌّ، وأنَّه كأسٌ كُلُّ النَّاس شاربوها، وأنَّ درجة الحُب الَّتي تبلغ منتهاها في المشاعر تجاه الشَّخص المُتوَفَّى تقفُ على فهمِ أنَّ هذا الأمْرَ كُلُّنا إِلَيْه لاحقون وإنِ اختلفتِ المواعيد والأسباب، والفقيد الَّذي فجَّر داخلَنا مشاعرَ الألَم، وجعلَ قلوبَنا دامعةً يملؤها الحزن، وهي راضية بقضاء الله وقدره، ونفوس مسلِّمة لأمْرِ الله عزَّ وجلَّ؛ بفضلِ ما نحملُه له من المَحبَّة والاحترام مِثلنا مِثل إخوانه وأبنائه وأصدقائه وكُلِّ أفراد عائلته الَّذين تبوَّأ مِنْهم منزلةً عظيمة في نفوسهم فأحبُّوه وأحبَّهم، ووضعوه في أعلى مراتب المَحبَّة؛ للعديدِ من الخصال الَّتي يتمتع بها، وفي المقدِّمة مِنْها حلمه غير المحدود وطِيب أخلاقِه وحُسن طباعه الَّتي لا يختلفُ عَلَيْها اثنان، حيث كان في الدبلوماسيَّة عَلمًا من أعلامِها عملًا وفعلًا وقولًا وممارسةً مهنيَّة حيَّة، تستشعرها وتنبضُ معها في كُلِّ أُموره، سواء في العمل أو التَّعامل مع مَن حَوْلَه فتركَ سِيرةً ذاتيَّة عطرة، وذِكرى خالدةً محمَّلة بكُلِّ مفردات الاحترام، إنَّه المغفور له بإذن الله تعالى أفلح بن سليمان الطَّائي ـ طيَّب الله ثراه ـ الَّذي ودَّعناه يوم الخميس الماضي.
ونحن إذ نبكي الفقيدَ حزنًا على فراقه، لا يَسعُنا إلَّا أنْ نقولَ ما يُرضي ربَّنا: «إنَّا لله وإنَّا إِلَيْه راجعون» وستظلُّ ذِكراه خالدةً في النُّفوسِ؛ لِمَا تركَه من إرثٍ وذِكرى من الصَّعبِ نسيانُها. تجلَّتْ فيه أخلاقُه وطباعُه وأفعالُه المغلَّفة بإنسانيَّة لا تعرفُ إلَّا الحُبَّ للآخرين، أسهَمَ فيها موروثه الحضاري المكتسَب من بيئتِه العائليَّة، فلم يتأثَّرْ بتلك الحقبة من المتغيِّرات المُتسارعة الَّتي أثَّرتْ في الكثيرين وبدَّلتِ الموروثَ الثَّقافي والدِّيني بحداثة لا تعرفُ إلَّا المصالح الشَّخصيَّة فهدمتْ معها الكثير من الثَّوابت الَّتي حافظَ هو عَلَيْها وعلى موروثه النَّقي مِنْها، وهي الثَّقافة العربيَّة الأصيلة والتَّربية الدِّينيَّة الملتزمة. ومع هذا لم يغفلْ أساليبَ العِلم والتَّقدُّم فأخذَ مِنْها ما يُناسبُ بيئته وحضارته فجمعَ بَيْنَ العِلم والإيمان، ممَّا تركَ الأثَرَ الطيِّبَ في نُفوس كُلِّ مَن عرفَه وعاشرَه وعاشرَه، سواء مهنيًّا أو في محيطه الاجتماعي. وقَبل أن نرفعَ أكُفَّنا إلى ربِّ السِّماء والأرض بالدُّعاء لِمَن أحبَبْناه، نقول له إنَّك ستظلُّ خالدًا فِينا كما كُنتَ دومًا حاضرًا في البال.. (اللَّهُمَّ اغفر له وارحمه، وعافِه واعْفُ عَنْه، وأكرِم نُزُله، ووسِّع مُدخله، واغسلْه بالماء والثَّلج والبَرَد، ونَقِّه من الخطايا كما يُنقَّى الثَّوب الأبيض من الدَّنس، وأبدلْه دارًا خيرًا من دارِه، وأهلًا خيرًا من أهلِه، وزوجًا خيرًا من زوجِه، وأدخلْه الجَنَّة، وأعذْهُ من عذاب القبر، ومن عذاب النَّار) اللَّهُمَّ آمين.
جودة مرسي
من أسرة تحرير « الوطن»