في الوقت الَّذي تركِّز فيه الدوَل الصَّاعدة والنَّامية على التَّعليم؛ باعتباره ركيزةً أساسيَّة للتَّنمية والتَّطوُّر وتحسين الأوضاع، ليسَتِ الاقتصاديَّة فحسب، بل في كُلِّ مناحي الحياة، نجد تراجعًا واضحًا للتَّعليم في الدوَل المتقدِّمة الَّتي حقَّقتْ بالفعلِ قدرًا هائلًا من التَّطوُّر بفضل مستويات التَّعليم الَّتي كانت لا تُضاهى فيها. هذه ليسَتْ دَوْرة كالدَّوْرات الاقتصاديَّة الَّتي يشهد فيها الاقتصاد نُموًّا ثمَّ تباطؤًا أو ركودًا ثمَّ نُموًّا ثانية. فالتَّراجع في التَّعليم يمتدُّ أثَره لفتراتٍ طويلة لِمَا له من أثَرٍ في تغيير المُجتمعات على المدَى الطَّويل. لعلَّ المثالَ الأوضح على ذلك هو الولايات المُتَّحدة الَّتي تميَّز نظامها التَّعليمي في فترة قوَّته بأنَّه لا يقتصر على الدِّراسة الأكاديميَّة والاهتمام بالمناهج الدراسيَّة فحسب، إنَّما يُعطي مساحةً أكبر للنَّشاطات «خارج المنهج» على اعتبار أنَّها وسيلة أفضل لتفجير ملكات الإبداع والابتكار لدَى الخرِّيجِين الَّذين يدخلون سُوق العمل وهُمْ أفضل تأهيلًا. يختلف ذلك عن نُظُم التَّعليم الأوروبيَّة الَّتي تركِّز أكثر، خصوصًا في سنوات المدرسة على «العلام» بمعناه التَّقليدي؛ أي تمكين الطلَّاب من العلوم الأساسيَّة كاللُّغة والحساب والرياضيَّات والعلوم الإنسانيَّة والتَّطبيقيَّة.
ولأنَّ أغْلَبَ الدوَل النَّامية كانت حتَّى منتصف القرن الماضي إمَّا تحت احتلال امبراطوريَّات الاستعمار الأوروبي الَّتي انهارت فيما بعد أو قريبة مِنْها، فقَدِ اتَّخذتْ من النِّظام التَّقليدي مسارًا للتَّعليم فيها. بالطَّبع يظلُّ التَّعليم في أوروبا يوفر مساحة للنَّشاطات غير الأكاديميَّة، لكن بالطَّبع ليس كالنِّظام الأميركي وما يشبهه في بعض الدوَل الأُخرى القليلة. ومع التوسُّع في المدارس الخاصَّة في الدوَل الصَّاعدة والنَّامية زادَ التَّوَجُّه نَحْوَ النِّظام الأميركي، ليس لأنَّه الأفضل في التَّأهيل لسُوقِ العمل، ولكنَّه «الأسهل» أكاديميًّا للحصول على «شهادة». إنَّما ظلَّ التَّعليم الحكومي، خصوصًا في مراحل المدرسة المختلفة قَبل التَّعليم العالي والجامعي يلتزم بالعلام الأساسي، مع تراجع مستمرٍّ في العقود الأخيرة للأنشطة خارج المنهج. في المقابل، أصبحتِ الأنشطة خارج المنهج سِمة أساسيَّة للنِّظام الأميركي على حساب العلام الأساسي. لذا لم يكُنْ مستغربًا أن تصدرَ الإحصاءات ونتائج الدِّراسات والبحوث في العُقود الثَّلاثة الأخيرة لِتشيرَ باستمرارٍ إلى تدهور مستوَى الطلَّاب في الولايات المُتَّحدة مقابل نظرائهم في الدوَل الأُخرى المتقدِّمة وحتَّى بعض الدوَل الصَّاعدة، خصوصًا في المواد الأساسيَّة كاللُّغات والرياضيَّات وغيرها.
وبمرورِ السِّنين يتدهور مستوَى الطلَّاب الأميركيِّين ويتفوَّق عَلَيْهم الأوروبيُّون والصينيُّون وغيرهم.
رغم أنَّ كثيرًا من المُوسرِين في منطقتنا يحبُّون إرسال أبنائهم للعلام في أميركا، إلَّا أنَّ الموسرين الأميركيِّين يرسلون أبناءهم للدِّراسة في بريطانيا أو غيرها من الدوَل الأوروبيَّة. قد يعتقد البعض أنَّ ذلك يَعُودُ إلى شهرة بعض جامعات بريطانيا وأوروبا مِثل أوكسفورد وكامبريدج والسوربون وغيرها. لكن في أميركا أيضًا جامعات ذات سمعة جيِّدة مِثل هارفارد وجورج تاون وييل وغيرها. إنَّما هو النِّظام التَّعليمي الَّذي يُشكِّل الفارق، خصوصًا وأنَّه بمرور الوقت أصبح العلام في الولايات المُتَّحدة مجرَّد «سلعة» تحكمها قواعد السُّوق وليس جزءًا من استراتيجيَّة تنمية للدَّولة. صحيح أنَّ «تسليع» التَّعليم تسرَّب أيضًا إلى أوروبا وبعض الدوَل الصَّاعدة والنَّامية، لكنَّ التَّعليمَ الأساسي حتَّى المدرسة العُليا يظلُّ في تلك الأخيرة ملتزمًا بالمنهج التَّقليدي. كما أنَّ سياسة التَّعليم تظلُّ جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجيَّات العامَّة لتلك الدوَل للنُّهوض والتَّنمية والتَّقدُّم. المُشْكلة أنَّ هذا أيضًا بدأَ في التَّدهوُر في السَّنوات الأخيرة، لاعتباراتٍ اقتصاديَّة من ناحية، ولاعتبارات أُخرى من قَبيل ما يتصوَّر أنَّه «تحديث» و»تطوير» للتَّعليم ولِتَفادي أعداد من الخرِّيجِين لا تستوعبُهم سُوق العمل خصوصًا في الاقتصادات منخفضة النُّموِّ والدوَل الفقيرة.
المُثير حقًّا أن تجدَ التَّدهوُر أسرع في المُجتمعات المتقدِّمة، الَّتي يَعُودُ الفضلُ في تَقدُّمها لاهتمامِها من قَبل بالتَّعليم. ولْنأخذِ الولايات المُتَّحدة كمثالٍ واضح على ذلك. ففي السَّنوات الأخيرة أصبحَ العلام عبئًا على السِّر وفي الوقت نَفْسِه مخرجاته ليسَتْ بالجيِّدة. وتزدادُ أعداد الشَّباب الصِّغار الَّذين لا يرَون في التَّعليم قِيمة، خصوصًا وهُمْ يرَون نماذج الأثرياء الجُدُد في أغلَبِهم لم يُكملوا تعليمهم وإنَّما حقَّقوا ثروات هائلة من العمل بالسُّوق. ويلقَى ذلك صدًى أيضًا على المستوى الرَّسمي والنّخبة، الَّتي ترى الابتكار والإبداع لا علاقة له بالعلام من أصلِه. وأهمُّ مثالَيْنِ على ذلك هُمَا الرَّئيس الأميركي المنتخَب دونالد ترامب ومستشاره الأقرب حاليًّا الملياردير أيلون ماسك. والأخير يكاد يحتقر التَّعليم كُلَّه، ويرَى أنَّ الشَّهادات لا قِيمة لهَا إنَّما الأهمَّ هو تكوين الثَّروة. أمَّا ترامب فهو معروف للكافَّة، ولعلَّ اختياراتِه لأركان إدارته من نجوم التلفزيون وأمثالهم تدلُّ على أنَّه لا يرَى قِيمة إلَّا في الشُّهرة والثَّروة بِغَضِّ النَّظر عن العلام وسنينه. وإذا تمكَّن الرَّجُلان من تنفيذ كُلِّ ما هُمَا مقتنعانِ به يُمكِن أن تكُونَ كارثة أكبر للتَّعليم في أميركا. والمُشْكلة أنَّ ذلك سينسكب على بقيَّة الدوَل، أوروبيَّة وصاعدة ونامية وغيرها. رُبَّما يتصوَّر البعض أنَّ أميركا وصلتْ حدَّ التَّشبُّع في تقدُّم التَّعليم وطبيعي ألَّا تهتمَّ كثيرًا الآن. إنَّما تبدأ الأُمم في التَّدهوُر والانحدار إذا تدهوَر العلام فيها ما يؤدِّي إلى سيادة الخرافة ونظريَّات المؤامرة والتَّلفيق والجهل والسَّطحيَّة الَّتي تُسهم مواقع التَّواصُل الآن في نشرِها وترسيخِها.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري