في ظلمات ليالي الشِّتاء الحالكة بَيْنَ نهاية القرن الثَّامن عشر وبداية القرن التَّاسع عشر تهبُّ الرِّياح الَّتي تعصفُ بجدرانِ الأكواخِ البالية في شرقِ إفريقيا هي نَفْسُها الَّتي تدفعُ بالسُّفنِ الشَّاهقة الَّتي تقطعُ المحيطات بخيلاء محمَّلةً بالشّحنات الثَّمينة الَّتي يتداولها التجَّار آنذاك كما كانوا يتداولون البضائع الباهظة، إلَّا أنَّها هذه المرَّة لم تكُنْ سلعًا، بل كانتْ أرواحًا اجتثَّها الاستعمارُ الغربي ـ المُدَّعي كذبًا حماية حقوق الإنسان ـ من جذورها وأرضِها قسرًا، وتحوَّلتْ إلى أرقامٍ لدَى المستعمِرِين، وصلتْ إحدَى البواخرِ إلى السَّاحل تحملُ قافلةً مخضَّبة بالأرواح في موكبٍ مُكلَّلٍ بجراحٍ من الإنسانيَّة المُنتَهَكة.
في إحدَى رحلاتِ البؤسِ للاستعمار الغربي، تلك باخرةٌ مُهترئة على مَتنِها فتاةٌ انتُزعتْ من حضنِ أُمِّها لِتمرَّ من بوَّابة اللاعودة الَّتي مرَّ مِنْها الآلاف من البَشَر، تتشبَّثُ بثيابِ شقيقِها التَّوأم الَّذي كانَ يُحدِّقُ في الأُفق الممتدِّ في ظلام البحر والَّذي يبدو لَهُما كوحشٍ مجهولٍ ينتظرُهما بأنيابِه الحادَّة.
وصلتِ الباخرةُ وحمولتُها المُثقَلة بالأوجاع إلى السَّاحلِ، يحاولُ شقيقُها أن يُمسكَ بِيَدَيْها اللَّتيْنِ ترتجفانِ وقدَمَيْها اللَّتيْنِ بالكادِ تحملانِها لِيمنحَها شيئًا من الأمان، وسط صخبٍ وهمهمات مُبهمة حَوْلَهما لرفاتِ أحياءٍ مغمَّسة بالمعاناة، بَيْنَما تتدافعُ تلك الأطيافُ المُنْهَكة تجدُ نَفْسَها افترقَتْ عن أخِيها في شاطئٍ غريب، فتُصبحُ في اليوم التَّالي وتجدُ أخاها على مَتنِ الباخرة نَفْسِها الَّتي أتَتْ بِهما وتتحرَّك وتبتعدُ به، وتُهرولُ هي على السَّاحلِ بقدَمَيْها الحافيتَيْنِ تحاولُ اللَّحاقَ بالسَّفينةِ في وداعٍ يُفطرُ القلبَ لا تنصفُه الأبجديَّات، وتجهشُ بصرخةٍ تشقُّ صدْرَ السَّماء بلُغةِ لا يفهمُها مَنْ حَوْلَها، لِتُدوِّيَ صَرختُها بصدًى ضعيفٍ في مواجهةِ الأمواجِ المُتلاطمة.
تُنادي طاقمَ السَّفينةِ بأنْ يَعُودوا بأخِيها، تُلوِّحُ بِيَدَيْها للبحرِ، علَّه يحملُ شَكواها ويوصلُ أوجاعَها... كان أخوها التَّوأم يقفُ على سطحِ السَّفينةِ يمدُّ يدَيْه نَحْوَها ويُناديها بلُغتِهما الخاصَّة الَّتي لا يفهمُها أحَد. كان صوتُه آخرَ أمانٍ وُجِدَ في حياتِها وكأنَّه يقولُ لهَا سأعُود، ولكنَّهما يَعْلَمانِ جيِّدًا أنَّ العودةَ مُستحيلةٌ... وسطَ هديرِ الأمواجِ والمجاديفِ اختفَتِ الباخرةُ، ولكنَّ طَيْفَه وهو يضربُ سياجَ السَّفينةِ المَعدني ظلَّ عالقًا بمخيَّلتِها، سقطَتِ الفتاةُ على ركبتَيْها بعد أنْ تمزَّقَ قَلبُها إلى شظايا ويَدُها الممدودة نَحْوَ الأُفق تُمسِكُ فراغًا وكأنَّها تُمسِكُ أطيافَ أخِيها للمرَّة الأخيرةِ، ظلَّ البحرُ كعادتِه مُحايدًا لم يحرِّكْ ساكنًا لهَا، لكنَّه شارَكَها وجَعَ الفقْدِ دُونَ أن ينطقَ بكلمةِ عزاء.
أبحرتْ باخرةُ الاستعمارِ الغربي المُتشدِّق زُورًا بحمايةِ حقوقِ الإنسانِ وهي تحملُ وزرًا مُوجعًا من الأرواحِ المُعذَّبة متَّجهةً إلى أحَدِ أسواقِ النّخاسة حيثُ سيباعُ شقيقُها هناك لِيفترَقا إلى الأبدِ.. كانتْ عاجزةً عن فَهْمِ ما يحدُثُ حَوْلَها، عاجزةً عن النُّطقِ بكلمةٍ واحدة، كُلُّ ما كانتْ تحملُه معَها هو ذاكرةُ مكانٍ بعيدٍ لا تعرفُ اِسْمَه، وأخٍ أخَذَتْه مِنْها أمواجُ تجارةِ الرِّق الرَّائجةِ للاستعمارِ الغربي.
في ظلالِ التَّاريخِ المَنسي ورغمَ مُرورِ الزَّمنِ وتبدُّلِ الأحوالِ وصدورِ القوانين الَّتي فكَّتِ السَّلاسلَ والقيودَ ما زالَ صدَى الماضي يحملُ بَيْنَ طيَّاتِه حكاياتٍ مُوجِعةً كجرحٍ غائرٍ في الإنسانيَّة لم تلتئمْ حوافُّه وإن غابتْ تفاصيلُه، كتلك الفتاةِ الَّتي عانتْ، ومعَ مرورِ السَّنواتِ تحرَّرتْ من قيودِها، إلَّا أنَّ عبءَ السَّلاسلِ الثقيلة ما زالَ يُثقلُ روحَها بحياةٍ في مَهبِّ الرِّيح بلا مأوًى بلا أرضٍ ولا حتَّى ذكريات، ولكنَّها لم تتحرَّرْ مِن الشَّوقِ إلى السَّماء الأولى وللأصواتِ الَّتي لم تَعُدْ تُسمَع إلَّا في الأحلام، ظلَّتْ عَيْناها تبحثانِ عن شقيقِها في كُلِّ وجْهٍ تراه في كُلِّ سُوقٍ تمرُّ به في كُلِّ رحلةٍ تأملُ أن تُعِيدَه إِلَيْها، كانتْ تستمدُّ القوَّةَ من حُريَّتِها الجديدة، وتَروي لأبنائِها وأحفادِها حكايتِها حكايةَ الفراقِ والتَّحرُّرِ والأمَل، ستبقَى قصَّتُها محفورةً في صخورِ السَّاحلِ، شاهدةً على حقبةٍ أليمةٍ عاشَتْها شُعوب إفريقيا والمنطقة، وكيف استطاعَ إنسانُها في نهايةِ المطافِ أنْ يَستعِيدَ كرامتَه وحقوقَه. لم تنقشعْ ظلالُ العبوديَّةِ ولم تَخْبُ أشباحُها تمامًا عَنِ المَشهدِ الإنساني بالرَّغمِ من أنَّ صفحاتِها طُوِيَتْ رسميًّا منذُ القرن التَّاسع عشر، ما زالَ صدَى الجراحاتِ الغائرةِ اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا تتردَّدُ حَوْلَ الإرثِ الاستعماري الَّذي أثقَلَ كاهلَ البَشَريَّة.
د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عمانية