على أسوارها انهارت طموحات الطغاة ٤.
يُنظر إلى مسرح البولشوي، أو المسرح الكبير، «كرمزٍ تاريخي من رموز الثَّقافة والفنِّ بمدينة موسكو»، تُقدَّم في قاعاته العروض المسرحيَّة وفنون الأوبرا والرَّقص، ويشي كحالِ مُعْظم المباني التَّاريخيَّة هُنَا، بعظَمةِ روسيا وتاريخها المزدهر، وقد تأسَّست فرقة «البولشوي»، الَّتي أطلق المسرح تيمنًا بها في عام ١٧٧٦م، وفي ١٨٢٥، تمَّ بناء المسرح الحالي بديلًا لآخر دمَّره حريق نشِبَ في مبانيه سَنَة ١٨٠٥م، وأشار له الرِّوائي البارز «نيقولاي أوستروفسكي»، في تحفته الروائيَّة النَّادرة، «كيف سقينا الفولاذ» إبَّان احتضانه «المؤتمر السَّادس لاتِّحاد الشَّبيبة الشيوعي لروسيا»، حيث «كان بحر النَّاس حَوْلَ المسرح من الكومسوموليين»، يشعُر الرُّوس «بعظَمةِ الثَّورة وجبروتها، العزَّة الَّتي نعجز عن تصويرها...». متحف روَّاد الفضاء، هو الآخر ضَمَّنه المكتب السِّياحي في برنامجنا الغني، وكجزءٍ من عشرات المعارض والمتاحف العالَميَّة الَّتي تضمُّها موسكو، يعرِّف زوَّاره بمقتنيات وإنجازات وتقنيَّات واكتشافات علوم الفضاء، والطَّيران، وتطوُّر المَركبات الفضائيَّة والصَّواريخ والتقنيَّات العسكريَّة، وهو من عجائب هذه المدينة المتألِّقة ماضيًا وحاضرًا. ويتميَّز متنزَّه «زارباديه»، بوفرة الأنشطة الثَّقافيَّة والتَّرفيهيَّة والاجتماعيَّة الَّتي يُنظِّمها بشكلٍ يومي، وببساطه الأخضر الأنيق وجماليَّاته ونوافيره الكثيرة. ويُعَدُّ كيتاي جورود، من شوارع وأحياء موسكو القديمة المتفرِّد بطُرُز مبانِيه التَّاريخيَّة الفاتِنة، وجَماليَّاتها الأخَّاذة وألوانِها البهيجة. فيما يستقطبُ شارع أربات، السيَّاح لجَماليَّات مبانِيه وأنشطته التِّجاريَّة الرَّائجة، وروح الحياةِ الرُّوسيَّة الَّتي اكتسبَها على مدَى مئاتِ السِّنين، وتظهر جليَّة في قوالبِ وأزقَّة الشَّارع وأناقتها، ويُقال بأنَّ كلمةَ «أربات» اشتُقَّت من «أرباض» العربيَّة، الَّتي دخلتْ إلى الرُّوسيَّة عن طريق التَّتر أو تجَّار الشَّرق. من إنجازات الحُكم الشُّيوعي، الَّتي تفخرُ بها روسيا، ضِمْن قائمة طويلة من المشاريع العالَميَّة الشَّهيرة، «مركز معارض عموم روسيا»، الَّذي تبلغُ مساحته الكُليَّة حوالي (٢٣٧) هكتارًا، ويضمُّ عددًا كبيرًا من المباني الباذخة والأجنحة والنُّصب والنَّوافير والحدائق... وافتتح في ١٩٣٩م، وهو بحقٍّ، أكثر من مدهشٍ ومثيرٍ للإعجابِ ضخامة وإبداعًا وجَمالًا ومحتوى، وخُصِّص في الماضي الشُّيوعي لعرضِ المُنتَجات الصِّناعيَّة والزِّراعيَّة والحربيَّة، والإعلان عن قوَّةِ الاتِّحاد السوفييتي وعظَمة صناعاته، وتُشير التَّماثيل الستَّة عشر المحيطة بالنَّافورة الرَّئيسة إلى مقاطعات الاتِّحاد السَّابقة قَبل انفلاتها من قبضتِه الَّتي لم تكُنْ حديديَّة كما توقَّعناها. متحف الحرب الباردة «بنكر «Go – 42 هو من أهمِّ المعالم السِّياحيَّة في موسكو، وتبرزُ قِيمته المهيبة، من كونه كان مخبأً يقعُ تحتَ الأرض على عُمق (٦٥) مترًا، وجُهِّز كملاذٍ لكبارِ مسؤولي الدَّولة في حالِ وقوعِ هجومٍ نووي مفاجئ، وحُوِّلتْ قاعات اجتماعاته، ومكاتب موظَّفيه، والمكتب الرِّئاسي لستالين، ومَرافقه متحفًا يحكي فترةَ الحربِ الباردة، واستُثمر سياحيًّا لِتَعُودَ مواردُه على خزينة الدَّولة... ويُعَدُّ بحقٍّ بسراديبِه الأشْبَه بالمَتاهة والَّتي شُيِّدتْ من الفولاذ والحديد والخرسانات من عجائب روسيا، وكُنَّا نسمعُ صوت القطارات تتحرَّك في المستوى الأعلى من وجودنا، وقدَّم المشرفون عَلَيْه محاكاة إطلاق إنذار بهجومٍ نووي، وشرحًا مفصَّلًا عن الموقع وأسراره وطريقة عملِه في الماضي القريب. فيما يظهر «كرملين إزمايلوفو»، كتحفةٍ معماريَّة حديثة البناء، عتيقة في شكلِها ومظهرها الخارجي، الغرض مِنْه تجسيد التَّاريخ والثَّقافة وملمح الحياة الروسيَّة، في العمارة والفنون ومَسيرة أنظمة وسياسات الحُكم بكُلِّ بذخِه وتنوُّعه، وعظَمة وازدهار الدَّولة الرُّوسيَّة، وعبقريَّة وفرادة الإنسان، مفكِّرًا وفيلسوفًا وفنَّانًا وامبراطورًا ومواطنًا... وقد نجحَ هذا المشروع في تحقيقِ غاياتِه الثَّقافيَّة ـ السِّياحيَّة، وأصبح مقصدًا رئيسًا في موسكو تهفو إِلَيْه أرواح وقلوب وأقدام السيَّاح من جميع أنحاء العالَم... فقَدْ وصفَ بأنَّه «مجمَّع ترفيهي وثقافي فريد من نَوْعه مُصمّم» بمظهرٍ خيالي «على الطّراز الرُّوسي». ويضمُّ عددًا من المتاحفِ وقاعات العرض، الَّتي تتميَّز بالتنوُّع وتُعرَض للحياةِ الروسيَّة بكُلِّ غناها الثَّقافي والاجتماعي والتَّاريخي، ومَسيرة تطوُّرها الطَّبيعي الَّتي تُثير الدَّهشة وتصنع أمام السَّائح عالمًا من الإبهار والخيال... كما تمتلك المنطقة تشكيلةً من الأسواقِ المشهورةِ عالميًّا الَّتي تحتشدُ بالصِّناعات والحِرف التَّقليديَّة الأخَّاذة والتُّحف واللَّوحات الفنيَّة الَّتي تستولي جَماليَّاتها وفِتنة أشكالِها وأناقتِها المُعبِّرة عن رُوح التُّراث الرُّوسي الغني، على عقلِ الإنسان المتجوِّل في هذه الأسواق الَّتي يُطلق عَلَيْها «فيرنيساج». خيارات السِّياحة في موسكو لا تُعَدُّ ولا تُحصى، تُقدِّم وجبةً متكاملةً تُشبعُ احتياجات الباحث المستكشف، والرَّاغب في الاستجمام والتَّسوُّق، والفائدة العلميَّة، وعشَّاق التَّاريخ والقصص المُلهِمة والآثار والفنون... فمن التنقُّل بَيْنَ الصُّروح والسَّاحات والمباني التَّاريخيَّة ـ الأثريَّة، إلى قصورِ القياصرة، والكنائس والأديرة وجامع موسكو الكبير، ودُور ومراكز الفنون والمتاحف والمسارح المُحتشِدة بالإبداع والجَمال وأعمال كبار الفنَّانين على مستوَى العالَم، والاستمتاع بمشاهدةِ موسكو ببذخِ مبانيها من عربات التلفريك، أو الغوصِ في أعماقِ جسدِها الفاتنِ، واكتشافِ تفاصيلِ وأسرارِ وكنوز المدينة عَبْرَ تقنيَّة أفلام (4d) في تجربة مثيرة وحماسيَّة، والتّجوال في نهر موسكفا داخل قاعاتِ يختٍ فاخرٍ في أُمسيات تُبهر السَّائح بجَمالِ الهندسة وفِتنة العمارة الرُّوسيَّة المتلألئة والمُزدانة بألوانِ إنارتِها الباذخة المنعكسة على مياه النَّهر... متاحف لمَركباتٍ فضائيَّة، مخابئ أمنيَّة وعسكريَّة تحت الأرض، شوارع مُفعمة بالنَّشاط التِّجاري والأسواق والحركة والفعاليَّات الثَّقافيَّة والفنون، مقاهٍ ومطاعم كلاسيكيَّة مَضَى عَلَيْها عشرات السِّنين والعقود، وأخرى عصريَّة تُقدِّم ألَذَّ أنواع الأكلِ والقهوة والآيسكريم والمخبوزات... القائمة طويلة ويستحيل الإلمام والإحاطة بما تمتلكه موسكو من مذاقات السِّياحة ومعالِمها الفاتنة ومحتواها الغني المتدفِّق بغزارة، وإن ألحقَ الزِّيارة بأُخرى، فثانية وثالثة. السَّاحات والميادين في موسكو هادئة، على عكس قريناتِها في عواصم ومُدُن أوروبا الصَّاخبة المُزدحمة بالحركة، النَّشطة بالفعاليَّات والصوَر الثَّقافيَّة والفنيَّة والتِّجاريَّة والَّتي تُعَدُّ متنفسًا رئيسًا لسكَّانِ المُدُن وزائريها على السَّواء، المليئة بالأكشاك الَّتي تعرضُ الحِرف والهدايا واللَّوحات الفنيَّة، والمطاعم والمقاهي والأسواق المُحتشِدة بالمُتسوِّقِين، والَّتي يشعُر السَّائح فيها بالإثارة والاستمتاع وجَمال أوروبا وفرادتها... وأعتقدُ على ضوء المشاهدات والقراءات اليوميَّة، أنَّ العقوبات الاقتصاديَّة الغربيَّة لهَا انعكاساتُها الضَّارَّة على الاقتصاد والأسواق والسِّياحة في روسيا، الَّتي يشعُر فيها السَّائح بالغُربة والضِّيق؛ لعدمِ قدرته على استخدام بطاقتِه البنكيَّة والبرامج والخدمات التقنيَّة الَّتي اعتادَ عَلَيْها وباتَتْ من متطلَّبات الحياة اليوميَّة وعلامة عالَميَّة متَّفق عَلَيْها. صحيح أنَّ روسيا اعتمدتْ على نَفْسها بالاستغناء عن المرجعيَّة الغربيَّة، ولكن مُعْظم بُلدانِ العالَم ومن يأتي مِنْها إلى روسيا يتعاملون وفق الأنظمة الغربيَّة في هذه المجالات .المقاهي الحديثة بمواقعِها السَّاحرة المفتوحة على السَّاحات والميادين العامَّة والشَّواطئ الخلَّابة والأسواق التجاريَّة النَّشطة، في أوروبا وبعض بُلدان آسيا، من محرِّكات السِّياحة ومُحفِّزاتها الَّتي تجذب الملايين من البَشَر سنويًّا، والدكتور سعيد الزدجالي، ذواقه من المستوى الرَّفيع، في استشعارٍ نكهات القهوةِ ذات الجودة العالية إنتاجًا وصناعة، وأنواع الكيك المميزة الَّتي تحضرها هذه المقاهي، ويمتلك القدرة على اكتشاف أفضلِها وأكثرها راحة للنَّفْس، فما أن يقدرَ بأنَّ الإرهاقَ تسرَّبَ إلى أجسادِنا من السَّيْر بَيْنَ المواقع السياحيَّة، حتَّى يرشدَنا إلى أحَد هذه المقاهي الفاتنة، متسائلين متى اكتشفها؟ وكيف تعرَّفَ على موقعِها المتفرِّد؟ وجودة ما تُقدِّمه من فناجين القهوة وأطباق الكيك؟ فلا نحصلُ مِنْه إلَّا على ابتسامةٍ ماكرة، يُلحقُها بعبارته المعروفة «إنَّها سِرُّ المِهنة»، فذائقة الدكتور سعيد ما هي إلَّا نتاج لذائقتِه الفنيَّة والجَماليَّة. «يتبع».
سعود بن علي الحارثي