لحروفِ اللغة العربية مكانة كبرى في كتاب الله تعالى، ولها تناغمٌ مع مراداتِ القرآنِ الكريم، وترى لها دَخْلًا مباشرًا في بيان المعني الذي سيق له اللفظ، ولها - من غير شكٍّ - سهمٌ كبيرٌ في كشف دلالاته، وتوضيح سياقاته، ونقرأ دائمًا في آيات الكتاب العزيز ذلك التناغمَ، وهذا الترابطَ الكبيرَ بين الحرفَ الذي يشكِّل الكلمةَ، ويَبْنِيهَا، وما ورد بشأن الحديثِ عنه من تلك القيم التربوية، وهذه المعاني الإيمانية، أو الأحكام الفقهية، أو في جانب النصح، ومقام العظة، أو في أيّ أمرٍ آخرَ جاءَ له اللفظ، حتى إنَّ الحرف ليشكِّل أكبرَ حَجَرٍ في بناء بيت المعنى المراد، ويكونُ هدفًا أساسيًّا، ومباشرًا من أهداف، ومقاصد اللفظ القرآني، ومرامي الآيات الكريمات، وهو أمرٌ معروفٌ، وشأنٌ مقرَّرٌ، ملموسٌ عند مَنْ تخصَّص في لغة القرآن الكريم، وسَبَرَ أغوارها، ونَهَضَ لحقِّها، وسَلَكَ كلَّ الطرق إلى تعرُّف قواعدها، وفهْم ضوابَطها، والوقوفِ على أخصِّ خصائصَها، والتمهُّر التام بإدراك فلسفتها، والتماسَ سماتِها، وجَهَدَ نفسَه في تعلمها، وتعليمها، وتقريبها للناس.
ونأخذ هنا نماذجَ قرآنية، تكشف اللِّثامّ، وترفع الحجاب عن جمالِ الحرفِ في محلِّه، ودورانِهِ على كمال مهمته في مكانه من الآيات، وكشفه عن جلال المعنى، وجمال تساوقه مع المبني، واشتراكهما في الإعجاز البلاغي، والقيمي، والتربوي، والسياقي من خلال حرف النون، وما سيبينه، ويكشفه من معان ودلالات سياقية.
* النموذج الأول: قوله تعالى:(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) (الاحقاف 17 ـ 18).
يتحدث السياقُ هنا عن موقفٍ خطيرٍ من مواقفِ الأبناءِ مع الآباء، وخصوصا أولئكَ الأبناءَ غيرَ البارين، أو البعيدين عن الله، والمتكبرين، أهلِ الصلفِ، وضعْفِ العقيدة، المستهزئين بكل القيم، الذين حار معهم آباؤهم، وحاولوا معهم مرارًا، وتكرارًا في قضية الهداية، ولكنهم في وادٍ، وأولادهم في وادٍ آخرَ، وتلك الآية تكشف عن أمثال هؤلاءِ الفجرةِ الكفرةِ الذين لا آخرةَ في قلوبهم، ولا تقديرَ منهم لآبائهم، وهم مصادرُ وجودهم بعد الله، وأسبابُ حياتهم.
وحرف النون هنا يكشف اللثام عن هذا الكبر، وذاك الصلف الذي لاقاه أحدُ الآباء - بصرف النظر عن كنهه، وماهيته، واسمه، فالعبرة في القرآن الكريم بعموم اللفظ، لا بخوص السبب، والقرآن الكريم قد ضربه مثلًا لكلِّ مَنْ تسول له نفسُه أن يكون كهذا المتغطرس على أبويه الذين حاولوا مستميتين أن يهدوه إلى طريق الله، ورسوله، ولكنه ركب رأسه، وراح يتكبر بكفره، ويتملص من إيمانه، ويستكبر على والديه، ويبدي لهما أنهما متخلفان، وأنهما لا يزالان يعتقدان في وجود ربٍّ، وخالق كريم، وإله مهيمن، قادر، مقتدر، لكنْ، سنرى كيف أدَّتِ النون تلك المعانيَ الفظيعة، والصفاتِ العجيبةَ لتلك الشخصية المهترئة، والنفس الضعيفة، والتي حكم القرآن الكريم عليها بالخسران المحقق، والقول المؤكد بأن أصحابها في جهنم خالدون؛ لأنهم في ضلال مبين، وجهل مركب، وكبير، وحرف النون له لقبه عند أهل التجويد، فهو من الحروف الذَّلْقِية، ومخرجُه هو طرف اللسان مع ما يقابله من لثة الأسنان العليا، ومن صفاته الجهر، والبينية، والاستفال، والانفتاح، والإذلاق، ومما ينبِّه عليه أهلُ التجويد - فيما يتعلق بنطق النون - أنها حرف لا يكمل معه صوت النون إلا بالغنة، ولمعرفة صفات الحرف، ننطق بحرف متحرك قبله، ثمّ ننطق الحرف المطلوب ساكنًا، فمثلًا النون المتوسطة التي زمنُها زمنُ التوسط هي التي تسمَّى بالنون المُظهَرة، وعند النطق بها يتمُّ التصادم بين طرفي مخرجِها بقوة اعتمادٍ أقلَّ من الشديد، وأكبر من الرخو، ولا يظهر معها صوتُ الغنة، رغمَ وجودها، فهي (مكمِّلة) للحرف، ويجب ألا تطغى عليه، ودليلُ وجودِها أنك إذا أغلقتَ فتحتي ا?نف، ونطقت (أنْ) لوجدت أن صوتَ النون (مكتوم)؛ ?ن مخرجها الرخو- الخيشوم - قد أُغلق تمامًا، فلم يكمل صوتُها؛ ولذلك فإنه ينبغي ضبط قوة الاعتماد على المخرج بدرجة التوسط، بمعنى أن ضعف الاعتماد يؤدِّي إلى طول زمن جريان صوت النون في الخيشوم، وظهور الغنة واضحة، جلية، وهذا خطأ في غير موضعه، أي خطأ في الحالات التي لا ينبغي فيها ظهور الغنة.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية