لا تُخلَّد الأسماءُ إلَّا بعظيمِ إنجازها، ولا يُستمطرُ الخلود إلَّا بجلالِ شواهده، ولا يُشار إلى هَيْبة التَّاريخ إلَّا ببساطة حديث النَّاس وحَكَوَاتهم الصَّادقة، ولقد خلَّد المجدُ بهاء صفحاته بعُمان العظيمة شموخًا وإباءً وإنجازًا يشهدُ لها القاصي والدَّاني، وينحني لها الصَّديقُ والعدوُّ، ويتعلَّمُ من فطنِتها وحِنكتها وسياستها وفلسفتها من له شأن وقِيمة وجوديَّة حضاريَّة في هذا العالَم.
إنَّ الثَّامن عشر من نوفمبر الخالد يروي حكايةَ أُمَّةٍ وُلدت لتُجدِّدَ العهدَ والوعدَ بمَجدِها، وعلوَّ كعبِها في الحضارة الإنسانيَّة السَّامية، وتُظِهرُ للعَيان الفلسفةَ السَّويَّة الَّتي رسمَتْ خريطة عُمان الحديثة لِتستنيرَ باستمرارِ هذا النَّهج القويم لعاهلِ البلاد المُفدَّى حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ أعزَّه الله ـ بخُطى ثابتةٍ وواثقة تتصدَّى لكُلِّ عقباتٍ أو عثرات تحدُّ من تَحقُّق التَّنمية والعيش الكريم للإنسان في هذه الأرض المباركة، متجاوزةً في ذلك ما شهدتْه البلادُ قَبْلَ النَّهضة الحديثة مراحلَ مؤلمة جعلتْ من قلوبِ النَّاس وعقولهم موقدًا مُزعجًا اِلْتَهَم الأخضر واليابس، فغابتِ العدالةُ الاجتماعيَّة، وعاشَ النَّاسُ فقرًا مُدقعًا، وإحباطًا مُؤلمًا، ألقَى بظلالِه على الدَّاخل والخارج.
فعلى الصَّعيدِ الدَّاخلي شكَّلتِ المرحلةُ الانتقاليَّة في نظام الحُكمِ على اختلافِ مُسبِّباتها أبرزَ التَّحدِّياتِ الجسيمة الَّتي تعكسُ واقعَ النُّمو السِّياسي والاتزان المُجتمعي في أيِّ أُمَّة بالانتقال السَّلِس، والتَّخطيط الرَّفيع لنظامِ حُكمٍ سابق إلى نظامٍ لاحق بكُلِّ هدوءٍ وأريحيَّة ورضا نادر في ظلِّ مُستحكماتٍ عصيَّة تُحيط بعالَمنا المُعاصر الَّذي تشوبُه العديد من المصالح المتقاطعة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وحتَّى أيديولوجيًّا، ولا يُمكِن للمتجوِّل بَيْنَ أزقَّة التَّاريخ وجنَباته أن يُنكرَ العُمقَ الاستراتيجي العُماني في المنطقة، وصراع المصالح المحيطة والدّوليَّة لكسبِ رِهان الموقف العُماني في الدَّاخل والخارج، كما لا يُمكِن أن يغفلَ الجمهور الهواجس الَّتي غلَّفتِ الأجواءَ الحزينة والمُترقبة، والَّتي تبدَّدتْ بعد إعلان مجلس الدِّفاع حقيقةً تاريخيَّة وهي استنارةُ فكر سادَتها وكُبرائها بأنَّه لا يُمكِن أن تكُونَ عُمان الحافلة بالمواقف العظيمة على مُفترق طُرقٍ مجهولة.
ومَن يتفحَّص فلسفة الخِطابات السَّامية في عهدِ الدَّولة الحديثة يشعُر بلُغة الشَّراكة المُجتمعيَّة الحقيقيَّة في رسْمِ سياسة الدَّولة وأجندتها ورسْمِ خريطة الطَّريق المُثلى للعيشِ الرَّغيد الَّتي تُرجمت في وضعِ مساراتِ رؤية «عُمان 2040»، وما يجري حاليًّا من أجْلِ تطبيقِها، وفي ذلك إشارةٌ واضحة للنُّضج السِّياسي، واستيعاب لماهيَّة المستوى الاجتماعي الآمِن، الَّذي تسعَى الفلسفةُ السِّياسيَّة لتحقيقِه؛ بهدفِ الوصولِ للمستوى المرغوب في سبيلِ إنجازِ التَّنمية المستدامة، واستيعاب مستجدَّاتِ المرحلة، والابتعادِ عن المركزيَّة الَّتي تولِّدُ البيروقراطيَّة والتَّقهقر في دفعِ عجلةِ التَّنمية، وتحقيق العدالة الشَّاملة، وتأسيسِ بيئةٍ حاضنة للاستقرارِ الاجتماعي وتعزيزِ قِيمة الأُسرة والفرد، وسَبر ممكناتِ التسلُّح بالهُوِيَّة العُمانيَّة وقِيَم المواطنة المسؤولة وتعميق النَّظريَّة التعاقديَّة بَيْنَ الدَّولة والمواطن، وتحديث المنظومة التَّشريعيَّة وتمكين الحوكمة وتجفيف مستنقعات الفساد.
وعلى الصَّعيد الخارجي وحينما ضجَّ العرب وزمجروا بخيانةِ مصر للقضيَّة الفلسطينيَّة بعد توقيعِ اتِّفاق كامب ديفيد في 1978م ودعوا بعضهم البعض لمقاطعتِها ومحاصرتِها كان صوت الحكمة والمسؤوليَّة في عُمان يرفضُ هذا السُّلوكَ، ويُعزِّز من قِيمة السَّلام والتَّفاهم، وفي العام 1979م وإبَّان غزو السوفييت لأفغانستان هبَّتِ الدوَل العربيَّة بوجْهٍ عامٍّ والخليجيَّة بشكلٍ خاصٍّ لدعواتِ الاستخبارات الأميركيَّة الكاذبة بإرسالِ خيرةِ شبابها لقتالِ السوفييت ونُصرة المُسلِمِين وأصبحتْ أميركا حينَها شيخ الفتوى فطحنَتْ رحَى الحرب مئات الألوف من الشَّباب الواعدِ ليكُونُوا بعد حينٍ شوكةً في خاصرةِ دوَلها، بل ويصبحون منبوذين وملاحقين من قِبَلِ أنظمتهم السِّياسيَّة، في وقتٍ دعتْ عُمان إلى عقدِ مؤتمرِ سلامٍ، وعملتْ على جمعِ تبرُّعات إنسانيَّة لبناء المستشفيات والمدارس والمنازل، وفي حربِ الثَّماني سنوات الطَّاحنة بَيْنَ إيران والعراق (1980- 1988م) هبَّتِ الدوَل العربيَّة وبالأخصُّ الخليجيَّة مِنْها بأموالها وجيوشها للوقوفِ في وجْهِ مَن يختلف معها دُونَ الاهتمام بقِيمة استقرار دوَل الجوار والمنطقة، بَيْنَما رفضتْ عُمان المشاركة في هذه الحرب العبثيَّة الفوضويَّة لأيِّ طرفٍ أو استخدام أراضيها لتحقيقِ مصالحِ للحرب، وفي العام 1984م تقدَّمتْ سلطنةُ عُمانَ لدوَلِ مجلسِ التَّعاون لدوَل الخليج العربي لِتَشكيلِ قوَّةٍ خليجيَّة مُكوَّنة من (100) ألفِ مقاتلٍ لحمايةِ المصالحِ الخليجيَّة، والتَّقليل من الاعتماد على القواعد الأجنبيَّة، لكنَّ المقترحَ رُفض من الأشقَّاء في الخليج!، وفي العام 1990م وحينما غزا العراق الكويت وتَشكَّل الحلف العربي بدعمٍ أميركي ـ أوروبي لِتَحريرِ الكويت ومقاتلة العراق وفرض الحصار عَلَيْه لاحقًا لسنواتٍ طويلة كان الرَّفض العُماني بالمشاركةِ في صراع الأشقَّاء حاضرًا وبقوَّة؛ حيث قام وزير خارجيَّتها بزيارةِ الرَّئيس صدام حسين من أجْلِ إيجادِ حلٍّ دبلوماسي يوقفُ شبحَ الحربِ الطَّاحنة، وفي العام 1994م وبعد تفكُّكِ يوغسلافيا وقيام المُتشدِّدين بإبادة المُسلِمِين فيها أرسلتِ العربُ شبابها القادمين من أفغانستان وبإيعازٍ أميركي للدِّفاع عن المُسلِمِين بفتوى الكونجرس الأميركي، بَيْنَما أخذتْ عُمانُ على عاتقها جمع التَّبرُّعات الإنسانيَّة دُونَ المشاركة في هذه الحرب العبثيَّة، وفي العام 1998م قامتِ القوَّاتُ الأميركيَّة بقصفِ العراقِ فيما عُرفَ بعمليَّة (ثعلب الصحراء) رفضتْ عُمان أن يكُونَ بَرُّها وبحرُها وسماؤها جسرَ عبورٍ للموتِ والقتل.
وفي أحداثِ سبتمبر من العام 2001م، وبعد تدميرِ برجَي التِّجارة العالَمي في أميركا، كانتِ القوائم تُظهِرُ تورُّط أغلبِ الدوَل العربيَّة بَيْنَما خلَتْ من أيِّ اسْمٍ عُماني، وتقُودُ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة في العام 2002م تحالفًا دوليًّا لتدميرِ أفغانستان بذريعةِ مقاتلةِ حركةِ طالبان امتنعتْ عُمان عن المشاركةِ إلَّا للأمورِ الإنسانيَّة والإغاثيَّة. وفي العام 2003م اجتاحت واستباحت أميركا العراق فكانتْ عُمان خارجَ النَّص في هذه الحرب المجنونة. وفي العام 2006 يجتاحُ الكيان الصهيوني لبنان وسوريَّا أمام صمتٍ ودعمٍ عربي واستنكار وإدانة عُمانيَّة صريحة. وفي العام 2017م وحينما فُرض الحصار والمقاطعة على قطر بسطتْ عُمان ذراعَيْها واحتضنتها بدافعِ الأُخوَّة والمَحبَّة. وفي العام 2019م وحينما أعلن ترامب نيَّته نقلَ السَّفارة الأميركيَّة إلى القدس في إشارةٍ لتصفيةِ القضيَّة وغلق هذا الملف رغم أنفِ العرب كان موقف الدوَل العربيَّة الاستنكار والاستهجان، بَيْنَما أعلنتْ عُمان عن موقفِها الرَّافض لتصفيةِ قضيَّة الوجودِ للعُمقِ العربي والإسلامي، بل وتعلنُ فتحَ سفارةٍ لها في رام الله كإشارةٍ واضحة بحقِّ الدَّولة للفلسطينيِّين رغم استهجانِ الكيانِ الصهيوني وأميركا ودوَل إقليميَّة متواطئة. وفي العام 2023م حيث طوفان الأقصى الَّذي أسمعَ العالَم أنين الفلسطينيِّين وحقَّهم المسلوب طوال سبعة عقودٍ ونيف وأمام الإبادة الصَّريحة للحياة في غزَة خصوصًا، وفلسطين عمومًا وسكوت الدوَل العربيَّة وصمِّ آذان علمائها ومثقَّفيها وكُتَّابها وشُعرائها كان الموقف العُماني واضحًا وصريحًا بمنعِ الطَّائرات الصهيونيَّة من المرورِ بأجوائها والمطالبةِ بمحاكمةِ مُجرِمي الحرب والحُريَّة المُطلَقة للمواطنين في الخروج بالمظاهرات والمقاطعة الشَّعبيَّة للشَّركات والمُنتَجات الدَّاعمة لهذا الجرم، وإقامة صلاة الغائب دُبرَ كُلِّ صلاة جمعة، والدُّعاء والنُّصرة بالمالِ والمواقفِ السياسيَّة والدبلوماسيَّة حتَّى هذه السَّاعة.
فشكرًا لكُلِّ يدٍ تشُمِّر عن ساعدَيْها لعُمان الحاضر والمستقبل، وشكرًا لكُلِّ قلبٍ ينبضُ بالحُبِّ والإخلاص برؤيةٍ مُشرقةٍ مُتطلِّعة، وشكرًا لكُلِّ فكرٍ ناصعِ الجَمال لوطنِه عُمان، وكُلُّ عامٍ وجلالة السُّلطان هيثم المُفدَّى ـ أيَّده الله ـ بكُلِّ خيرٍ وسلام، وكُلُّنا يقينٌ بخطواته الثَّابتة الواثقة نَحْوَ عُمان وما ينبغي أن تكُونَ عَلَيْه.
د. سلطان بن خميس بن راشد الخروصي
باحث وكاتب في شؤون المجتمع والمواطنة