الخميس 21 نوفمبر 2024 م - 19 جمادى الأولى 1446 هـ

النظام العماني لاعتماد المؤسسات الصحية: ورؤيته الطموحة!

النظام العماني لاعتماد المؤسسات الصحية: ورؤيته الطموحة!
الاثنين - 18 نوفمبر 2024 04:24 م

د. يوسف بن علي الملَّا

30

تسعَى سلطنةُ عُمانَ، ضِمْن رؤيتها الوطنيَّة الطَّموحة، إلى تعزيز جودة الخدمات الصحيَّة وضمان استدامتها، بما يتماشَى مع أعلى المعايير الدّوليَّة. ولعلَّه تنامَى إلى مسمعِ الجميع مؤخرًا بانطلاقِ النِّظام العُماني لاعتمادِ المؤسَّسات الصحيَّة من قِبَلِ وزارة الصحَّة العُمانيَّة. وهي ـ إن صحَّ لي القول ـ خطوةٌ مفصليَّة في مَسيرة تطوير القِطاع الصحِّي في السَّلطنة، حيث ينبعُ من رؤيةٍ استراتيجيَّة شاملة تهدف إلى تحقيقِ أعلى معايير الجودة والتميُّز في تقديم الخدمات الصحيَّة. هذا النِّظام ليس مجرَّد إجراء تنظيمي، بل هو مشروع وطني يهدف إلى تحقيق التَّنمية المستدامة ورفع كفاءة المؤسَّسات الصحيَّة، وتعزيز ثقة المُجتمع بجودة خدماتها. وهو ـ بلا شكٍّ ـ يأتي في إطار التزام سلطنة عُمان بتوفيرِ رعايةٍ صحيَّة تتماشَى مع طموحات رؤية عُمان ٢٠٤٠، الَّتي تضعُ صحَّة المواطن وجودة حياته في صميم أولويَّاتها.

بطبيعةِ الحال، يُعَدُّ اعتمادُ المؤسَّسات الصحيَّة وفق هذا النِّظام أداةً فعَّالة لضمانِ الجودة، حيث يضعُ معاييرَ واضحةً تلزمُ المؤسَّسات الصحيَّة بتطبيق أفضل الممارسات العالَميَّة، مِثل تقليل الأخطاء الطبيَّة، ورفع كفاءة الكوادر الطبيَّة، وتحقيق مستويات عالية من رضا المَرضى. فوفقًا لمُنظَّمة الصحَّة العالَميَّة يُعَدُّ تطبيق معايير الاعتماد الصحِّي إحدى أكثر الوسائل فعالية لتحسينِ جودة الخدمات الطبيَّة، حيث تؤكِّد الدِّراسات أنَّ الأنظمةَ الصحيَّة الَّتي تتبنَّى الاعتماد تُحقِّق تحسُّنًا بنسبةٍ تصلُ إلى عشرين في المئةِ في الأداء العامِّ، وانخفاضًا في معدَّلات الأخطاء الطبيَّة بنسبةِ أربعين في المئة. وعَلَيْه فهذا يُعزِّز من أهميَّة النِّظام العُماني لاعتمادِ المؤسَّسات الصحيَّة كخطوةٍ نَحْوَ تعزيز مكانة السَّلطنة في تقديم الرِّعاية الصحيَّة ذات الجودة العالية.

مع ذلك لا يخلو تطبيق النِّظام من التَّحدِّيات. فمِنَ الضَّروري تعزيز ثقافة الجودة داخل المؤسَّسات الصحيَّة، وتوفير التَّدريب المستمرِّ للكوادر الطبيَّة والإداريَّة لضمانِ فهمِهم الكامل لمتطلباتِ الاعتماد. كما أنَّ النَّجاحَ في تطبيق أيِّ نظام يعتمد على توفير البنية الأساسيَّة اللازمة والموارد البَشَريَّة القادرة على إدارة العمليَّة بكفاءة. ومع ذلك، فإنَّ الفرص الَّتي يوفرها النِّظام تفوق التَّحدِّيات بكثيرٍ. فهو حقيقةً يمهِّد الطَّريق لتحقيقِ التميُّز المؤسَّسي من خلال تحسينِ الأداء، وتقليل التَّكاليف النَّاجمة عن الأخطاء الطبيَّة، وتعزيز تنافسيَّة المؤسَّسات الصحيَّة على المستوى الإقليمي والدّولي.

من ناحية أخرى، هنالك دوَل أثبتَتْ أنظمة الاعتماد لدَيْها نجاحها في تحقيق نتائج إيجابيَّة ملموسة. فعلى سبيل المثال، أسهمَتْ معايير السَّلامة والجودة الوطنيَّة الأستراليَّة، في تقليل العدوى المكتسبة داخل المستشفيات بنسبة ثلاثين في المئة خلال خمس سنوات. وبالمِثل، أظهرتْ مراجعةٌ طبيَّة في عام ٢٠٢١م أنَّ مبادرات الاعتماد في كندا رفعت معدَّلات رضا المرضى بنسبة تصل إلى عشرين بالمئة. ومع ذلك، أعتقد هُنَا بأنَّ النِّظامَ العُماني يتجاوز مجرَّد الاستفادة من التَّجارب العالَميَّة، حيث يدمجُ الأبعادَ الثَّقافيَّة والاحتياجات الصحيَّة الإقليميَّة، مِثل مكافحة الأمراض غير المُعْدية ومعالجة الفجوات في الحصول على الرِّعاية الصحيَّة بَيْنَ المناطق الحضريَّة والولايات وقراها. ولعلَّ هذا النَّهج المخصّص يضْمَن أن تكُونَ عمليَّة الاعتماد صارمةً وملائمةً في الوقت ذاته.

وواقعيًّا بَيْنَما نتأمل جوهر الاعتماد الصحِّي، لعلِّي أقولُ هُنَا: إنَّه من المُهمِّ أن نتذكَّرَ أنَّ قوَّتَه تكمن في الثِّقة الَّتي يَبنيها بَيْنَ المؤسَّسات والمُجتمعات الَّتي تخدمها. وكما قال الفيلسوف أرسطو (الجودة ليسَتْ عملًا إنَّها عادة)، فإنَّ النِّظامَ العُماني يجسِّد هذا المبدأ، حيث يضْمَن أن تُصبحَ الجودة ممارسةً ثابتة وليسَتْ مجرَّد هدفٍ دوري. بل إنَّ هذا الاعتماد يُعزِّز ثقافة المساءلة، ممَّا يذكِّر المهنيِّين الصحيِّين بالتزامهم الأخلاقي بـعدم الإيذاء. إنَّه يقينًا تذكيرٌ عميق لنَا بأنَّ الهدفَ النِّهائي للرِّعايةِ الصحيَّة ليس فقط العلاج، بل أيضًا توفير الرَّاحة والدَّعم والكرامة في رحلة المريض!

وهكذا في المستقبل، سيصبح نظام الاعتماد العُماني حجر الزَّاوية في السِّياسات الصحيَّة الوطنيَّة. وللحفاظِ على زخمِه، تتطلب الجهود المستمرَّة من التَّدريب والتَّطوير، وتوعيَّة المواطنين والمقيمين بأهميَّة الاعتماد في ضمان سلامتهم وحقوقهم، وما يتبع ذلك من تعزيز للشراكات الدّوليَّة.

ختامًا، يُمثِّل نظام الاعتماد العُماني للمؤسَّسات الصحيَّة أكثر من مجرَّد إطار تنظيمي، إنَّه ـ بفضل الله ـ رؤية مُتحقِّقة. وهو دليلٌ حقيقي على القيادة الرَّشيدة لسلطنة عُمان بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ـ وبما يتماشى مع رؤية «عُمان ٢٠٤٠»، وذلك من خلال دمج الجودة والسَّلامة والابتكار في صُلبِ تقديم الرِّعاية الصحيَّة. وبَيْنَما تحتفلُ سلطنةُ عُمانَ بتقدُّمِها المستمر، وفي عيدها الوطني الرَّابع والخمسين المَجيد، تظلُّ هذه المبادرة شاهدًا على عزمِها لِتَحقيقِ التَّنمية المستدامة في مجال الصحَّة وما بعده. وهي تُذكِّرنا أنَّه في السَّعي لِتَحقيقِ الأجمل، كُلُّ جهدٍ يُحسب، وكُلُّ تفصيلٍ مُهِمٌّ، وكُلُّ مريضٍ يستحقُّ الأفضل... وكُلُّ عامٍ وعُمان وقائدها بخير.

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]