شهدتِ السَّاحة الإعلاميَّة مؤخرًا حدثًا فريدًا واستثنائيًّا وهو إصدار المرسوم السُّلطاني رقم (58/2024) الخاصِّ بقانون الإعلام والَّذي يُشكِّل ثورةً في مجال الإعلام؛ كونه حدَّد المسؤوليَّات والحقوق الخاصَّة بالإعلاميِّين والَّتي منحَتْهم المزيد من الحُريَّة الَّتي تُسهِّل لَهُم القيام بِدَوْرهم الإيجابي للنُّهوض بالدَّولة والدَّفع بعجلةِ الإنتاج والوصولِ لمستهدفات الرُّؤية الطَّموحة «عُمان 2040» بأسرع طريقة، وفي ذات الوقت مواكبة المستجدَّات والتَّطوُّر المُذهل للتكنولوجيا الحديثة وذلك وفق النِّظام الأساسي للدَّولة وبما يُحقِّق الاستقرار ويعمل على بناء الوعي المُجتمعي. إنَّ القانون الإعلامي الجديد استطاع أن يُحقِّقَ المعادلة الصَّعبة بالتَّوازن بَيْنَ حقوق الإعلاميِّين وحُريَّاتهم.. بَيْنَ حمايتهم وتحديد مسؤوليَّاتهم.. والحفاظ على حقوق المؤسَّسات والأفراد أيضًا.. ولعلَّ تخفيف عقوبة السِّجن إلى غرامة يدلُّ على حرص القيادة الحكيمة على توفير الحُريَّة الكاملة للإعلاميِّين الَّتي تُتيح لَهُم جرأة الطَّرح والتَّعبير بأريحيَّة وفق ضوابط النِّظام العامِّ للدَّولة.. كما أنَّه وضعَ في حسبانه مواكبة تطوُّرات وسائل الإعلام العالَميَّة المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئيَّة المُتسارعة مع الالتزام بالمصداقيَّة والشفافيَّة الَّتي تدعم مَسيرة النَّهضة المباركة.. وكُلُّ هذا بالطَّبع سيساعد على تطوير القِطاع الإعلامي وتلبية تطلُّعات الإعلاميِّين وتوفير البيئة الآمِنة لَهُم الَّتي تُمكِّنهم من القيام بِدَوْرهم التَّنويري على أكملِ وَجْه، لا سِيَّما أنَّ القانون القديم كان قد صدرَ منذُ ثمانينيَّات القرن الماضي أي أنَّه أصبحَ غير مواكبٍ لتطوُّرات المرحلة الرَّاهنة. إنَّ الإعلام العُماني يُعَدُّ من القِطاعات الَّتي بدأتْ ونمَتْ وازدهرتْ في ظلِّ مَسيرة النَّهضة الحديثة.. ولقدِ استطاعَ أن يُمثِّل بأدائه وتطوُّره واتِّساعه المتواصل وجْهًا مُشرِقًا من وجُوه هذه النَّهضة، وصوتًا عُمانيًّا تميَّز دومًا بالصِّدق والصَّراحة والوضوح، سواء في تعبيره عمَّا يجري على هذه الأرض الطيِّبة من جهود تنمويَّة خلَّاقة في كُلِّ المجالات أو في تفاعله الإيجابي مع ما يحيط به من تطوُّرات ومتغيِّرات عديدة ومتسارعة وعلى نَحْوٍ يتَّسم بالموضوعيَّة والكفاءة والنُّهوض بِدَوْره في الاستراتيجيَّة الوطنيَّة وكجسرٍ من جسور التَّواصُل ودعم وتطوير العلاقات مع الدوَل والشُّعوب الشَّقيقة والصَّديقة على امتدادِ العالَم. لقد وُلد الإعلام العُماني كثمرةٍ من ثمار النَّهضة المباركة حيث لم يكُنْ هناك قَبل عام 1970 أيَّة وسيلة إعلاميَّة، فنما وترعرعَ لِيصبحَ خلال سنوات معدودة صرحًا من صروح النَّهضة العُمانيَّة الحديثة وصيغة للتَّواصُل والتَّفاعل المستمرِّ بَيْنَ المواطن العُماني ومحيطه الخليجي والعربي والإقليمي والدولي من ناحية وبما يحافظ على الخصوصيَّة والسِّمات المميّزة للشَّخصيَّة العُمانيَّة من ناحية ثانية.. ثمَّ يقف على أرضيَّة صلبة وهو يعايش القرن الحادي والعشرين بكُلِّ متغيِّراته وتحدِّياته.. وجاء القانون الأخير لِيضيفَ له المزيد من الحُريَّة والمسؤوليَّة الإيجابيَّة.
إنَّ الإعلام في زمن التكنولوجيا لم يَعُدْ مقتصرًا فقط على التليفزيون والإذاعة كما كان في السَّابق، بل تطوَّر مع ظهور عصر السَّماوات المفتوحة والإنترنت والذَّكاء الاصطناعي واخترق كُلَّ مجالات الحياة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة وغيرها، وأصبح جزءًا من الممارسات اليوميَّة في المنزل والعمل والمدرسة وكُلِّ مكان يُستغل لخدمة هذه المجالات وتحقيق أهدافها المنشودة، حيث يؤدي الإعلام دَوْرًا رائدًا من حيث تشكيل صورة أيَّة قضيَّة في أذهان الرَّأي العامِّ على النَّحْوِ الَّذي يريده من بِيَدِه ناصية الأمْرِ فقد أصبح صوت الإعلام هو الأعلى والأقدر في التَّأثير على الجماهير.. لذلك فإنَّ دوَل العالَم المتطوِّرة في عصرنا الحالي تعتمد في بنائها على ثلاثة أركان رئيسة هي السِّياسة والاقتصاد والإعلام وهو ما يوضح المكانة المتميِّزة لوسائل الإعلام بكافَّة أشكالها المسموعة كالإذاعة أو المرئيَّة كالتلفاز والقنوات الفضائيَّة أو مقروءة كالصحف والمجلَّات والكتيِّبات نظرًا لتأثيرها القوي على الفرد والمُجتمع، بل الدَّولة ككُلٍّ، لا سِيَّما وأنَّ تأثيرَها هذا أصبح من العوامل الَّتي تُسهم في التَّنشئة الاجتماعيَّة وتَبنِّي شخصيَّة الفرد مع بعض المؤسَّسات الأخرى وتوجّه أفكاره ومعتقداته ورؤاه، سواء بطريقة مباشرة من خلال برامج ذات اتِّجاهات محدَّدة أو دراما أو روايات أو غيرها. لا شكَّ أنَّ الإعلام بوسائله المختلفة يُعَدُّ أداةً قويَّة للفرد للتَّفاعل مع معطيات عصره وقضاياه في الدَّاخل والخارج حتَّى أصبح العالَم يُسمَّى بالقرية الإلكترونيَّة الصَّغيرة.
فما يحدُث في أقصى الشَّرق يستطيع أنْ يعرفَه مَن هو في أقصى الغرب في نَفْس اللَّحظة وما يَقُومُ به أهْلُ الشَّمال يستطيع أهْلُ الجنوب الاطِّلاع عَلَيْه في وقتِه. نتمنَّى لإعلامنا المزيد من التَّقدُّم والتَّطوُّر فيكُونُ إعلامًا ذا مرجعيَّة ثقافيَّة راسخة منتجًا يغذِّي أرواح المُتلقِّين وعقولهم من أطفالنا وشبابنا، ويُنمِّي قدراتهم العلميَّة والثقافيَّة ويُعمِّق لدَيْهم الانتماء للدِّين والوطن والاعتزاز بالهُوِيَّة لا مستهلكًا لإنتاج الإعلام الغربي الَّذي غالبًا ما يحمل رسائل هابطة بزعم نشر مبادئ العولمة الَّتي تهدف إلى تذويب العقول العربيَّة ومَحْوِ هُوِيَّتها ومسخها لِتُصبحَ نسخةً باهتةً من عقولهم.
ناصر بن سالم اليحمدي
كاتب عماني