الأحد 24 نوفمبر 2024 م - 22 جمادى الأولى 1446 هـ
أخبار عاجلة

التكيف مع تحديات اليوم!

التكيف مع تحديات اليوم!
الاثنين - 11 نوفمبر 2024 05:20 م

د. يوسف بن علي الملَّا

20

في عالَم اليوم الَّذي يتطوَّر باستمرار، حيث يبدو أنَّ التَّحدِّيات تتراكم بشكلٍ أسرع ممَّا يُمكِننا حصره، أصبحتِ الحاجة إلى المرونة النَّفْسيَّة أكثر أهميَّة من أيِّ وقتٍ مضَى. وهُنَا قد نجدُ أنْفُسنا منجذبِينَ إلى فَهْمِ كيف يُمكِن للنَّاس أن يتعاملوا بفعاليَّة، والأهمُّ من ذلك، أن يعيشوا براحة وطمأنينة، على الرَّغم من العقبات الَّتي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى الَّتي تُمثِّلها الحياة. وهُنَا أعتقدُ وبشكلٍ جليٍّ بأنَّ المرونةَ تلك والعودة للاستقرار العاطفي، لا تقتصر على اجتياز المُشْكلة فحسب، بل يتعلق الأمْرُ بتحويل الصُّعوبات إلى فرصٍ للتَّغيير. لذلك عِندما لا نكُونُ قادرين على تغيير موقفٍ ما، فإنَّنا نواجه تحدِّيًا لتغييرِ أنْفُسنا... أوَلَيْسَتْ تلك حقيقة!

ورُبَّما واحدة من أقوى الاستراتيجيَّات لبناء المرونة هي إعادة الصِّياغة المعرفيَّة. هذا المفهوم ـ إن لم أكُنْ مخطئًا ـ والمتجذِّر في العلاج السُّلوكي المعرفي، يَدُور بشكلٍ أساسي حَوْلَ تغيير وجهات نظرنا، وأعني هُنَا رؤية التَّحدِّيات من زاوية جديدة. فإعادة الصِّياغة المعرفيَّة هي أكثر من مجرَّد خدعة عقليَّة، ولكنَّها ـ صدقًا ـ طريقةٌ لإعادة التَّفكير في نهجنا الكامل تجاه صعوبات الحياة. وكما أظهرَ الباحثون، فإنَّ الأشخاص الَّذين يمارسون إعادة الصِّياغة يميلون إلى التمتُّع بصحَّةٍ نَفْسيَّة أقوى ونظرة أكثر استباقيَّة للحياة.

من ناحية أُخرى، هنالك أيضًا عنصر حاسم آخر في القدرة على التحمُّل وهو اليقظة الذهنيَّة: حيث يعيش الفرد اللَّحظة الحاليَّة بوعيٍ وتركيز، دُونَ الانشغال بالأفكار المتطفِّلة أو التَّشتُّت في الماضي والمستقبل. ورُبَّما لا أبالغ هُنَا بأهميَّة هذه الممارسة في حياتنا وفي حياة الأشخاص الَّذين لاحظتهم. وأوَلَسْتَ معي أيُّها القارئ: بأنَّ اللَّحظة الحاليَّة هي الوقت الوحيد الَّذي نسيطر عَلَيْه؟! كيف لا؟ وترسيخ أنْفُسنا في الحاضر يُمكِن أن يحرِّرَنا من الكثير من القلق والفوضَى العقليَّة. لذلك من البديهيَّات أن نعيَ بأنَّ الوعيَ التَّامَّ يسمحُ لنَا بالاستجابة للمواقفِ من مكانٍ يسودُه الهدوء والوضوح بدلًا من الردِّ بشكلٍ متهور. وها هُنَا وفي عالَم اليوم، حيث غالبًا ما يتمُّ سحبُنا في اتِّجاهات متعدِّدة، توفِّر اليقظة الذهنيَّة مرساة، ترتكز عَلَيْنا هُنَا والآن!

وهذا يأخذنا إلى التَّواصُل الاجتماعي، والَّذي هو جزء لا يتجزأ من تلك المرونة والقدرة على التحمُّل، على الرَّغم من أنَّه جزء يتجاهله الكثيرون في وقتنا هذا مع أنَّ طبيعةَ مُجتمعنا ودِيننا كان واضحًا في استيعاب مفاهيم العلاقات الاجتماعيَّة وأهميَّتها؛ لِمَا توفِّره من مصادر السَّعادة والرِّضا في الحياة. فمشاركة لحظات الضَّعف مع الآخرين لا يُعمِّق علاقاتك مع من تُحبُّ فحسب، بل يقوِّي أيضًا إحساسَك بالمرونة النَّفْسيَّة، خصوصًا للمرضَى الَّذين يعانون من أمراض مُزمنة، يُعَدُّ الدَّعم الاجتماعي عاملًا محوريًّا في تحسين نتائج العلاج وزيادة معدَّلات الشِّفاء، حيث تُشير الأبحاث إلى أنَّ مشاركة المرضَى قد تُسهم في تعزيز الاستجابة الإيجابيَّة للعلاج، ممَّا يُثبت أنَّ الإنسانَ ليس وحدة منفصلة، بل يحتاج إلى شبكة دعمٍ تُعزِّز من قدرته على مواجهة التَّحدِّيات الصحيَّة والنَّفْسيَّة بفعاليَّة واطمئنان. فحياتُنا اليوميَّة هي بالأصلِ عبارة عن تواصُل بشتَّى أدواته؟

وعَلَيْه، كان من الواجِب أيضًا بمكان، إدراك تعاطف الفرد مع ذاته، وهي نَوْعًا ما ممارسة أساسيَّة لبناء القدرة على التحمُّل والصُّمود. وهُنَا التَّعاطف مع الذَّات لا يعني التَّساهل مع أنْفُسنا، بل يعني تعلُّم كيفيَّة احتضان عيوبنا بلُطفٍ وتفهُّمٍ. فعلى سبيل المثال، أجدُ أنَّ المرضَى الَّذين يعانون من أمراضٍ كمتلازمة القولون العصبي غالبًا ما يُعانون من تدهوُر حالتهم بسبب مشاعر الإحباط ولَوْم النَّفْس المستمرِّ، الأمْرُ الَّذي يؤدِّي إلى تفاقُم الأعراض الجسديَّة والنَّفْسيَّة. ولكن عِندما يتمكَّن هؤلاء المرضَى من تطوير التَّعاطف مع الذَّات، فإنَّهم يبدؤونَ برؤيةِ مرَضِهم كجزءٍ من تجربتهم الإنسانيَّة بدلًا من عبء يتحمَّلونه بمفردهم، ممَّا يُسهم في تحسين استجابتهم للعلاج وتخفيف حدَّة الأعراض لدَيْهم. علاوةً على ذلك، في الحالات الَّتي يمرُّ فيها المرضَى بانتكاسات متكرِّرة، كمرضَى السكَّري الَّذين يواجهون صعوبةً في الالتزام بالنِّظام الغذائي أو مرضَى الإدمان المُتعافِين، يُمكِن للتَّعاطف مع الذَّات أن يكُونَ محفِّزًا للاستمرار في رحلة العلاج. فبدلًا من أن يشعروا بالخيبة، يبدؤون برؤية الانتكاسات كجزءٍ طبيعي من الرِّحلة العلاجيَّة، ممَّا يمنحُهم القدرة على النُّهوض والمواصلة دُونَ انكسار.

لذلك عِند التَّأمُّل في مفهوم المرونة النَّفْسيَّة وقدرة التحمُّل والتَّعافي من الضُّغوطات، تتجلَّى لنَا حقيقةٌ شاملة، وهي أنَّ المرونةَ النَّفْسيَّة تلك، ليسَتْ سِمةً وُلدنا بها، بل هي ملَكة نبنيها شيئًا فشيئًا، ونحن نواجِه تقلُّبات الحياة وصعابها. وهذا يوضِّح المعنى الحقيقي للمرونة والمتجلِّي في القدرة على التَّكيُّف، والتَّعلُّم المستمرِّ، مهما كانت التَّحدِّيات الَّتي تواجِهنا. فعِندما نغرس بذورَ المرونة في نفوسنا، نمنح أنْفُسنا القوَّة لمواجهةِ تحدِّيات اليوم، وكذلك المجهول القادم، بشجاعة وحكمة وقلبٍ منفتح.

ختامًا، تؤكِّد الدِّراسات أنَّ الأفرادَ الَّذين يُظهرون مستويات عالية من المرونة النَّفْسيَّة يميلون إلى تحقيق حياةٍ أكثر توازنًا ورضا، بل ويزدادون إنتاجيَّةً واستقرارًا عاطفيًّا. فيكُونُون أقلَّ عرضة للتوتُّر المُفرط، وأكثر قدرة على التَّكيُّف مع الأزمات دُونَ أن تتأثرَ صحَّتهم النَّفْسيَّة بشكلٍ كبير. وهذا كان وما زال جليًّا في تراثنا العربي والإسلامي من خلال تلك الأمثلة والقصص الَّتي عبَّرت عن هذه الرُّوح الصَّامدة والمَرِنة، مِثلها مِثل السَّيف العربي، الَّذي يُصقَل بالنَّار لِيزدادَ قوَّةً... وبلا شك الضَّربة الَّتي لا تقصم الظَّهر تُقوِّيه!

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]