أيها الأحباب.. لا شك أن الإسلام دين الكمال والشمول، وقد جاء بما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم، وفي عباداتهم ومعاملاتهم، وفي شتى المجالات ومختلف نواحي الحياة فهو منهج للحياة البشرية بكل مقوماتها، وقد اشتمل على المبادئ الراقية والأخلاق والنظم العادلة والأسس الكاملة، ولذلك (فالعالم البشري مفتقر بأجمعه إلى أن يأوي إلى ظله الظليل ذلك لأنه المبدأ النافع للبشر فيه حل المشكلات الحربية والاقتصادية والسياسية وجميع مشكلات الحياة التي لا تعيش الأمم عيشة سعيدة بدون حلها، فعقائده أصح العقائد وأصلحها للقلوب والأرواح ويهدي إلى أحسن الأخلاق، فما من خلق فاضل إلا أمر به ولا خلق سيئ إلا نهى عنه، لهذا كانت القاعدة الكبرى لهذا الدين رعاية المصالح كلها ودفع المفاسد، فهو يساير الحياة وركب الحضارة فيأمر بطلب الأرزاق من جميع طرقها النافعة المباحة من تجارة وصناعة وزراعة وأعمال متنوعة ولم يحرم إلا الأسباب الضارة التي تحتوي على ظلم وجور وبغي وعدوان وذلك من محاسنه وفيه الأمر بأخذ الحذر من الأعداء وتوقي شرورهم بكل وسيلة، وقد حث على الاجتماع والائتلاف الذي هو الركن الأصيل للتعاون والتضامن والتكافل على المصالح ومنافع الدين والدنيا ونهى عن الاختلاف والافتراق، وفيه الإرشاد إلى جميع طرق العدل والرحمة المتنوعة، وفيه الحث على الوفاء بالعقود والعهود والمواثيق والمعاملات التي بها قوام العباد، وفيه الأمر بإقامة العدل على النفس والقريب والبعيد والعدو والصديق) (من كتاب «كمال الدين الإسلامي وحقيقته ومزاياه 2/ 37»)، وورد في (السنن الكبرى للبيهقي 9/ 386):(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ قَطُّ إِلَّا كَانَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ، وَلَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، وَلَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلَّا حَبَسَ اللهُ عَنْهُمُ الْقَطْرَ)، وعَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ:(لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ).
إذن فقد (تضمنت الشريعة الإسلامية نظامًا متكاملًا للمعاملات والمبادلات المالية مثل: أحكام البيع والإجارة وبيان ما يجوز بيعه وإجارته وما لا يجوز، وطرق استثمار الأموال والمضاربة والشركة وأحكام الأمانات وطرق الاستيثاق في الديون وعلاقة العمل بين صاحب العمل والعمال.. وغير ذلك من العلاقات الاقتصادية التي تحتاج إلى ضبط وتنظيم حفاظًا على الحقوق والمصالح وتحقيقًا للعدل وتجنبًا للظلم والصراعات الاجتماعية والاقتصادية التي تمزق المجتمع وتفكك الجماعات، والأساس الإسلامي الأول في المعاملات المالية بين الناس هو الارتباط بالالتزام والوفاء بالحقوق وعدم أكل أموال الناس بالباطل) (من كتاب «بناء المجتمع الإسلامي، ص: 233»).
ومن هنا (فلا يتصور حال مجتمع ما، لا تؤدى فيه الأمانة، ولا يفي فيه الناس بعهودهم، حيث إن الناس في مثل هذه المجتمعات تنعدم ثقة بعضهم ببعض، ويصبح الناس فيه أقرب إلى الحيوانات التي لا يهمها سوى إشباع نهمها، وتلبية حاجاتها، ولو كان في ذلك تعاسة الآخرين، ولذلك فليس عجيبًا أن يأتي سيل من النصوص آمرًا بأداء الأمانات والوفاء بالعهود، وعدّ الرسول الكريم ـ عليه أكمل الصلاة وأتم التسليم ـ الكذب في الحديث، والخلف بالوعد، وخيانة الأمانة، من علامات النفاق، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:(آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان) (متفق عليه) (من كتاب «نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص: 306»).
فالمسألة على عمومها تلزم كل مسلم أن يلتزم بما ألزمه الله به بينه وبين ربه، وبما ألزم نفسه به بينه وبين الناس.. وللحديث بقية.
محمود عدلي الشريف