.. وقولهم:(فقالوا يا ليتنا نُرَدُّ)، فالقاف قوية، وفيها إعلانٌ واضحٌ بالاعتراف، والإقرار، واللام تخرج من جوانب الفم، تؤكد ما هو حاصل في الجوف، والضمير واو الجماعة في: (فقالوا) الذي يعني أنهم عن بَكْرَةِ أبيهم نطقُوا كأنهم رجلٌ واحدٌ، والذي قالوه هو الحسرة حتى إنهم لَينادُونَ على ما لا يُنادَى عليه، وهو:(ليتنا)، فكأنهم لذهولهم ينادُون على السراب، وعلى التمنِّي نفسه ،وهو كلمة:(ليت)، أو أنَّ المنادى محذوف، وتقديره:(يا ربنا، ليتك تَمُنُّ علينا بالعودة للتوبة، والأوبة)، أو أنهم يُنَادُونَ الليت والتمنِّي تحسرًا، وتعجيزًا أن يَرُدَّ عليهم، أو أن يلبِّيَ لهم طلبًا، فاللام بَيَّنَتْ أنها رغبة كاملة منهم، وأنها ملأتْ أفواهَهم بعد أن خرجتْ من جوانحهم، وكلِّ قلبهم، ودخلتْ (نا) في (يا ليتنا)؛ لتدل على أنه مطلبٌ لهم جميعًا، قالوه، وأقرُّوا به، ولكنْ (ولات حين مندمٍ)، فالله قد أعطاهم الفرصةَ كاملةً، والحياةُ كانت بين أيديهم هم أصحابها، والمتصرفون فيها، ولكنهم كانوا أغبياءَ لم يُحسنوا استغلالَها، ولم يجيدوا استثمارَها في صالحهم، وراحُوا وراءَ شهواتِهم، وغرائزهم، ومضوا حتى فاجأهم ملكُ الموت وهم على معاصيهم، فهم عاصون، مترخِّصون، ولكلِّ معصيةٍ مرتكبون، ولكلِّ ما يغضب الله مجاهرون، فاستحقُّوا ما به كانوا يوعدون، وجملة:(ولا نكذب بآيات ربنا) تدل على أنهم ملأوا أفواهَهم بالوعد لربهم، وأنهم نَفُوا مطلقًا بواو المعية التي تنصب المضارع بنفسها عند الكوفيين، وتنصب المضارع بـ(أن) مضمرة وجوبًا عند الجمهور، أو أهل البصرة، ويَنْفُونَ نفيًا قاطعًا أنهم لا يكذبون مستقبلًا بآيات الله، وأنهم سيكونون مؤمنين، وأنهم سينصلحون، ويأتون بكلِّ ما يحبه الله، ولكنَّ الله الذي خلقهم، ويعلم مستقبلهم قال بأنهم لو رُدُّوا لعَادُوا لما نهوا عنه:(بكل تلك التأكيدات، والأفعال الماضية التي تعني أنهم كاذبون، وخائبون، وليسوا بصادقين)؛ ولذلك قال الله تعالى مسجلًا موقفَهم بعد عودتهم لو أعادهم بكل تلك التأكيدات:(وإنهم لكاذبون)، وتأتي اللام المزحلقة المؤكِّدة الخارجة بكل ألوان التأكيد من الله تعالى، والتي تكشف لنا عن طبيعةِ هؤلاء المُرْتَكِسَةِ، وفطرتهم الخبيثة المُنْتَكِسَةِ، وقولهم الكاذب الذي يعلم الله منهم أنهم عنه بعيدون، ومن نقيضه قريبون، وعاملون، فعودتهم لا قيمة لها، ولا وزن لهم عند ربهم؛ لأن ربهم يعلم كذبهم، وعدم صدقهم في توبتهم.
فقد كشفت تلك اللامات المتعددة، وهي:(لام لو، واللام المزحلقة، ولام الجر في «لِمَا»، واللام المزحلقة في خبر إِنَّ:»لكاذبون»)، فقد تعاونتْ كل تلك اللامات، وبشكل واضح بخُبْثِ هؤلاءِ، وماهيتهم المَهِينة لو عادوا، كما كشفتْ وأبانتْ عن طبيعتهم، وانتكاسِ فطرتِهم، وخبثِ طويَّتِهم، وأنَّ دأبهم في كل ذلك هو الكذب، وتمنِّي العودة لارتكاب كل شهوة، واقترافِ كل معصية، وإتيانِ كلِّ جُرْمٍ أثيمٍ.
النموذج الخامس:
قولُ الله تعالى:(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص 1 ـ 4).
إنّ المعنى عند أهل التفسير لتلك السورة يكمن في هذا الموجز المختصر، فمعناها:(قُل يا محمد قولًا جازمًا مؤكّدًا: أنّ الله ـ عزوجل ـ هو إله واحدٌ أحدٌ، منفردٌ بصفات الكمال، والجلال، فهو فردٌ صَمَدٌ، له الأسماء الحسنى، وله الصفات العُلَا، (اللَّهُ الصَّمَدُ)، أي: الإله الذي يَصْمُدُ إليه الخلائق في احتياجاتهم، ومسائلهم، وهو المستغني عنهم، و(الصمد) اسمٌ من أسماء الله تعالى الذي يبيِّن جميع افتقار المخلوقات إليه، وهو أغنى الأغنياء عنهم، أيْ أنه سبحانه وتعالى هو الذي يفتقرُ إليه الخلق، ولا يفتقر هو إلى أيِّ أحد من عباده، وليس لمخلوقاته غِنًى عنه، وهو الغنيُّ عن العالمين، وقوله:(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) أيْ لم يكن له ولدٌ، فبذلك لم يكنْ والدًا، ولم يولَدْ أيضًا من أحد، فبذلك لم يكن ولدًا، وهما صفتا نَقْصٍ، ولا يليق بمقام الله ، ربِّ العباد - عز وجل - أن يتّصفَ بهذه الصفات التي تُنقِصُ منه.
وقوله:(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أيْ: أن الله سبحانه وتعالى لا يكافئه أحدٌ بالمكانة، ولا بالمنزلة، ولا بالعظمة، ولا بالقدسية؛ فلا شبيه له، ولا مثيل له، ولا نِدّ له، ولا نظير له، حيث إنَّ التوحيد هو أهمُّ مبدأ دعا إليه الإسلامُ، وأكده في قلوب، ونفوس، وأرواح، وعقول أتباعه، وهذه السورة، سورة الإخلاص هي سورة مكية، وعدد آياتها أربع آيات فقط، ومع ذلك فهي تعدِلُ هذه السورة ثلث القرآن، وتتميّز بالإيجاز، والعمق، والإحاطة بصفات الله العلي العظيم، وسميت سورةَ الإخلاص؛ لأنها تُخلِّص قارئَها من الشرك؛ نظرًا لأنها تضمُّ أنواع التوحيد الأساسية.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية