الأحد 04 مايو 2025 م - 6 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

تأملوا قوله تعالى :«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «1»

الأربعاء - 30 أكتوبر 2024 04:15 م

أيها الأحباب: لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالخلق رفيع، والمعاملة الحسنة فيما بينهم وبين غيرهم، فالمؤمنون مأمورون بقمة الخلق وحسن الطوية، الأمر الذي ينبغي أن يكونون عليه دوما، ولا يحيدون عنه يوما، ومن تلك الأوامر القرآنية الراقية التي تصنع الأمن والسلم في المجتمع المسلم الوفاء العقود أي: العهود، (يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوفُواْ بِٱلعُقُودِ أُحِلَّت لَكُم بَهِيمَةُ ٱلأَنعَمِ إِلَّا مَا يُتلَى عَلَيكُم غَيرَ مُحِلِّي ٱلصَّيدِ وَأَنتُم حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحكُمُ مَا يُرِيدُ ) (المائدة ـ ١)، وقد جاءت هذه الآية الكريمة كما هو معلوم في مستهل سورة المائدة، كما أنها تُسمى أيضًا بسورة (العقود)، لأنها السورة الوحيدة التي افتتحت بطلب الإيفاء بالعقود، وتسمى أيضًا (المنقذة)، قال القرطبي: (وروي عنه ـ صلّى الله عليه وسلم ـ أنه قال:(سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب)، لأن السورة الكريمة ـ أيها الأحباب ـ زاخرة بالأحكام الشرعية المتنوعة، فأنت تقرؤها بتدبر وخشوع فتراها قد بينت أحكامًا شرعية كثيرة، منها ما يتعلق بوجوب التزام العدل في القضاء وفي الشهادة وفي غيرهما، ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي قطع الطريق والإفساد في الأرض.

إن الذي يقرأ سورة المائدة يراها قد وجهت جملة من النداءات إلى المؤمنين وقد تجاوزت هذه النداءات في كثرتها، تلك النداءات التي وردت في أطول سورة في القرآن وهي سورة البقرة، فقد وجهت سورة المائدة إلى المؤمنين ستة عشر نداءً، وقد تضمن كل نداء تشريعًا من التشريعات، أو أمرًا من الأوامر، أو نهيًا من النواهي، أو توجيهًا من التوجيهات، مما يدل على أن هذه السورة قد اهتمت اهتمامًا ملحوظًا بتربية المؤمنين على المنهج الذي اختاره الله لهم، وأول هذه النداءات التي وجهها الله تعالى إلى المؤمنين، والمراد بالعقود هنا: ما يشمل العقود التي عقدها الله علينا وألزمنا بها من الفرائض والواجبات والمندوبات، وما يشمل أيضا العقود التي تقع بين الناس بعضهم مع بعض في معاملاتهم المتنوعة وما يشمل العهود التي يقطعها الإنسان على نفسه، والتي لا تتنافى مع شريعة الله تعالى، وبعضهم يرى أن المراد بالعقود هنا: ما يتعاقد عليه الناس فيما بينهم كعقود البيع وعقود النكاح، وبعضهم يرى أن المراد بها هنا: العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة للمظلوم حتى ينال حقه، والأول أولى لأنه أليق بعموم اللفظ، إذ هو جمع محلى بأل المفيدة للجنس وأوفى بعموم الفائدة، قال القرطبي:(والمعنى: أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب)، قال (صلّى الله عليه وسلّم):(المؤمنون عند شروطهم)، وقال:(كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط)، فبيّن أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله: أي: دين الله، فإن ظهر فيها ما يخالف رد، كما قال (صلّى الله عليه وسلّم):(من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) (التفسير الوسيط للطنطاوي 4/ 7 باختصار).

وقد حفلت السنة النبوية المطهرة بالأوامر بالوفاء بالعهود ونفاذها وعدم نقضها، ومن ذلك ما جاء في (السنن الكبرى للبيهقي 9/ 385): (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ)، وفي (السنن الكبرى للبيهقي أيضًا 9/ 385): (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ) (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى)، فما واجبنا نحو تلك العقود؟ هو ما سنجيب عنه في يلي إن شاء الله تعالى.

محمود عدلي الشريف

 [email protected]