من المعروف من اللغة بالضرورة أن الإعجاز البلاغي في كتاب الله تعالى يتناول الحرف بنوعَيْهِ: مبنًى، ومعنًى، والكلمة: اسمًا، وفعلًا، والجملة: اسميةً، وفعليةً، والأسلوبَ كلَّه على تنوعه، وتعدُّده، وتشكُّله، وأنَّ الصوت يتناغم مع المعنى الذي اجتُلِبَ له، وجِيءَ به لبيان الدلالة السامية التي هدف إليها القرآن الكريم، وسعى لإبرازها، وعمل على توضيحها، وعمق فهمها، وشدة ترابطها.
ونرى في كلِّ آية كذلك أن الحرفَ المستعمَلَ في الكلمة القرآنية، وشكَّل بناءها هو نفسه يأتي دائمًا متناغمًا مع الهدف الذي سِيقَ له، ويكون متساوقًا مع الغاية التي وردتْ الكلمة لأجلها، وجاءتْ لبيانها، ورسم ما وراءها من معنًى قرآنيٍّ جليل.
وهنا نعرض مرة ثالثة، وفي آياتٍ أُخَرَ لحرف اللام، وصَوْتِهِ في الكشف عن الإعجاز البلاغي لآيات الكتاب العزيز، ونوضِّح جمال معناها في سياقاتها، وجلال دلالاتها، وكمال مبناها، واتساع مغزاها، وتساوقه مع أهدافها الكِبار، وأغراضها الغِزار، ومراميها الكِثَار.
* النموذج الرابع:
نعرض هنا لقضية الإعجاز الصوتي في حرف اللام، ونرى ما فعله في سياقه، وما سكبه من بلاغة، وبيانٍ، وجمالٍ، وكمالٍ في محلِّه من الآيات القرآنية، ومَوَاضِعِهِ في السور الكريمة، يقول الله تعالى:(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنعام ـ 27).
في تلك الآيات تجد أن الله تَعَالَى يَذْكُرُ حَالَ الْكُفَّارِ (إِذَا وَقَفُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّار)ِ وَشَاهَدُوا مَا فِيهَا مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَرَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ تِلْكَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ وَالْأَهْوَالَ الجسام، فَعِنْدَ ذَلِكَ:(فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يُكَذِّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، وَيَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، والمقصود، والواضح من هذا: أنَّ الله ـ جلَّ وعلا ـ يُبين لنا حالَ الكافرين ومآلهم، وأنهم إذا وقفوا على النار، ورأوا بأمِّ أعينهم، وعاينوها واقعًا ملموسًا، ومشاهد تمنّوا الرجعة إلى الدنيا، وأن يكونوا مؤمنين، حتى يسلموا من هذا العذاب، ويبتعدوا من هذا الهم الذي لا تحتمله الجبال، ولكن لا حيلةَ لهم في ذلك، ولا حول لهم في رده، ولا إبعاده ولو للحظة واحدة، فليس هناك ردٌّ إلى الدنيا، ولا عودة لما كان متاحًا بين أيديهم، وانتهى أمر دنياهم، رغم أنهم لو رُدُّوا لعادوا لما نُهُوا عنه، ويحكم الله عليهم بأنهم كاذبون في كلِّ أمانيهم، وتمنِّيهم العودة للإصلاح، وإنما سيتمادون في غيِّهم، ويواصلون في ضلالهم، وأن هذا هو دأبهم، وهو دائما ديدنهم، وأنهم باقون في باطلهم، مستمرُّون في غيِّهم، وفسقهم حتى لو مَنَّ اللهُ عليهم، وأعادهم إلى دنياهم؛ ليتداركوا أمرهم، فإنهم سيفعلون ما عنه نُهُوا، ويأتون ما أُمِرُوا بتركه، فهم كاذبون، كاذبون في أمانيهم بالتوبة، والأوبة.
فإنهم ـ فيما يَدَّعُون ـ يكذبون في ذلك، وأنهم قومٌ خُبثاءُ، ليس عندهم صدقٌ: لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ ولهذا قالوا في موضعٍ آخر:(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) (الأنعام ـ 23)، مجرد ادعاءات لا وزن لها.
فهم لَمَّا رأوا العذابَ، وشاهدوه بأم أعينهم قالوا:(يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وذلك لشدّة ما وَقَعُوا فيه من المأزق العظيم، والعاقبة الوخيمة، والنهاية المحتومة، والعذاب الذي ينتظرهم، وهو أليم ومهين، وعظيم، وهم بعدُ لو عادُوا إلى الدنيا لَعَادُوا إلى معاصيهم، ولَسَارَعُوا إلى فعلِ المنكَرات، وعمل الموبِقات، وارتكابِ المحرَّمات، وإغضابِ ربِّ الأرضين والسماوات.. ادعاءاتٌ كاذبةٌ، وهم المشركون بالله غيرَه، والعابدون معه مَنْ دونه، ومَنْ سواه.
وهنا نجد لحرف اللام أثرًا كبيرًا، حيث إِنَّ الحرف (لو) يبدأ باللام الخارجة من جوانب الفم، وكأن تمنِّيهم قد ملأ أفواههم، وخرج مِنْ كلِّ جوانحهم، وتشعر أنهم من كلِّ كياناتهم يرجُون لو عادوا، ومَنَّ الله عليهم بالرجوع إلى الدنيا، فعبَّرتِ اللامُ التي ملأت أفواههم، وخرجت من جميع جوانبه أنْ لو تحققّ لهم هذا الأملُ، والواو الساكنة (واو الحرف لو) التي تخرج هي الأخرى، وبعد خروجها بجميع هواء الفم والجوف، أُغْلقَتِ الشفتان مقرةً بالتمني، ونعمة العودة إلى الدنيا؛ لاستدراك ما فات، والعزم على تدارك ما كانَ، ومحو ما اقتُرِفَ من معاصٍ، وذنوب.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية