الأحد 03 نوفمبر 2024 م - 30 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

مناورات المؤقت

الأربعاء - 30 أكتوبر 2024 03:50 م

د.أحمد مصطفى أحمد

10

لا شكَّ أنَّ أيَّ محاولةٍ لتجنيبِ الأبرياء من السكَّان الأصليِّين في فلسطين ويلات المجازر الَّتي يرتكبها الاحتلال الصهيوني بحقِّ أطفالهم ونسائهم ولو لعدَّة ساعات هي أمْر محمود يستحقُّ التَّأييد والتَّشجيع. فلا أحَد يُدرك بشاعة الموت والدَّمار والجوع والعطش مِثل هؤلاء الَّذين يتعرَّضون يوميًّا لقصفِ الصَّهاينة الَّذين يُحاصرونهم حتَّى الخَنْق. فحتَّى العمل على إدخال المساعدات إلى قِطاع غزَّة أمْرٌ يستحقُّ من الجميع الدَّعم والمؤازرة. من هُنَا فإنَّ الحديثَ عن وقفِ إطلاق نار مؤقَّت، ولو لمدَّة يومَيْنِ، مع إدخال المساعدات الإنسانيَّة بحُرِّيَّة إلى قِطاع غزَّة شيء إيجابي لو تَحقَّق. وبِدُونِ حُكمٍ مسبق على مَن يُشكِّكون في مفاوضات هدنة مؤقَّتة نقول إنَّ «مَن يَده في الماء ليس كمَنْ يَده في النَّار» فلا تنتقدوا وتُزايدوا على أيِّ طرفٍ يُحاول أن يفعلَ ما يستطيع لِتَخفيفِ الويْلِ والدَّمار عن أهْلِ فلسطين.

يَجِبُ التَّذكير والتَّأكيد على أنَّ كُلَّ ما يتعلَّق بالاحتلال هو «مؤقَّت»، فلا احتلال استيطانيًّا دائم مهما طال أمَدُه، كما حدَث في الجزائر وجنوب إفريقيا. وبالتَّالي فالحديث عن وقفِ إطلاق نار مؤقَّت أو هدنة مؤقَّتة يتعيَّن ألَّا يبدوَ مستغربًا مع «كيان مؤقَّت». صحيح أنَّ التَّجارب السَّابقة خلال حرب التَّطهير العِرقي والإبادة الجماعيَّة الَّتي يشنُّها الصَّهاينة منذُ أكثر من عام على الفلسطينيِّين، والآن على اللبنانيِّين، لا تُبشِّر بخيرٍ، لكن لا يُمكِن التوقُّف عن المحاولة. رغم طرح مبادرة الهدنة المؤقَّتة من جانب طرفٍ عربي هو مصر، إلَّا أنَّها تأتي أيضًا في سياق تحرُّك أميركي جديد قَبل الانتخابات الرئاسيَّة بعد أيَّام. إذًا يريد الأميركيون أن تبدوَ إدارتهم وكأنَّها «وسيط تسويةٍ لوقفِ الحرب»، وأيضًا أن تعطيَ قيادة الاحتلال في الوقت نَفْسِه فرصةً لإعادةِ ترتيب أوراق عدوانها الدَّائم ومحاولاتها تصفية السكَّان الأصليِّين وقضيَّتهم. ولم يكُنِ الطَّرف الأميركي يومًا وسيطًا، إنَّما هو شريك كامل للصَّهاينة في كُلِّ شيء، بما في ذلك أيُّ مفاوضات.

لكن حتَّى لو كانتْ مناورات وقفِ إطلاق النَّار المؤقَّت مجرَّد «إيهام» أميركي باستمرار التَّفاوض في الوقت الَّذي يواصلُ فيه الاحتلال القتل والتَّدمير فليس من الصَّحيح رفضُ ذلك بالمُطْلق. فرُبَّما تُسفر المناورة حتَّى عن تخفيف الحصار ولو قليلًا عن شَعب فلسطين في غزَّة الَّذي لم يَعُدْ يجدُ أبسط مُقوِّمات الحياة. وبالطَّبع لا ترغب الأطراف العربيَّة المعنيَّة، مِثل مصر وغيرها، أن تبدوَ وكأنَّها تتخلَّى عن أو تُعرقل فرصة هدنة ولو مؤقَّتة. يبقى طبعًا الشَّكُّ قائمًا، بل وقويًّا، في أنَّ الاحتلال يرغبُ حتَّى في أن يُقدِّمَ شيئًا ولا حتَّى لداعمِه الأوَّل: الإدارة الأميركيَّة.

يبدو ذلك واضحًا من مناورات قيادة الاحتلال بشأن الهدنة، فوزير الحرب يُصرِّح بأنَّه مع المفاوضات لوقفٍ مؤقَّتٍ للحربِ كما يطلبُ الأميركي ورئيس حكومته يرفضُ وقفَ الحربِ. وكأنَّما الاثنان يتنافسان في الانتخابات الرئاسيَّة الأميركيَّة، هذا مع الإدارة الحاليَّة، وذاك يريد أن يأتيَ رئيس آخر تربطه به علاقات شخصيَّة.

مناورة الهدنة المؤقَّتة هي إذًّا أميركيَّة في أغلبِها، وتبدو خطوة في سياق الحمْلة الانتخابيَّة في أيَّامها الأخيرة. لا غَرْوَ أيضًا إذا كانتْ كذلك، فالسِّياسة في النِّهاية هي فنُّ المُمكِن والقدرة على تحقيق أقصى استفادة مُمكِنة من أيِّ وضعٍ حتَّى إذا لم تكُنْ فاعلًا قويًّا فيه. فإذا أمكنَ أن تحصُلَ للفلسطينيِّين راحةٌ من قتلِهم وتدمير أحيائهم فوق رؤوسهم ليومَيْنِ وتدخُل شاحنات مساعدات تُقيم أوَدَهُم لفترةٍ وكأنَّها تقدمة انتخابيَّة في حمْلة الدِّعاية الرئاسيَّة الأميركيَّة فما الضَّير من ذلك؟! المُشْكلة هي في الاحتلال الصهيوني الَّذي لا يريد حتَّى أن يوزعَ المُرشَّح الأميركي «زيت وسكَّر» في مناطق نفوذه وسيطرته واستيطانه.

ولا تملك الأطراف الإقليميَّة أي أوراق ضغط على المحتل ولا حتَّى إمكانيَّة تهديد سنده وداعمه الأميركي. بل هناك بعض الأطراف العربيَّة تتقاطع مع الاحتلال في رغبتها إفشال الإدارة الأميركيَّة الحاليَّة لصالحِ المُرشَّح الرئاسي الأميركي الآخر. هذا في الحقيقة مع يجعل مناورات المؤقَّتة لا تبدو واعدة للأسف.

هناك جانب آخر، قد لا يبدو مُهمًّا إلى جانب المأساة الإنسانيَّة البشعة في غزَّة، خصوصًا في شمال القِطاع. ذلك هو أنَّ استمرار مناورات التَّفاوض حتَّى لو فشلتْ يبقي «القضيَّة» حيَّة وقائمة، قضيَّة احتلال الصَّهاينة لأرض فلسطينيَّة ومحاولة إبادة أو تهجير سكَّانها الأصليِّين. ورُبَّما كان هذا الجانب هو ما تبقَّى لبعض الأطراف المعنيَّة، كمصر والأردن تحديدًا، ويُمكِنها المحافظة عَلَيْه والعمل على إبقائه على أيِّ طاولة. فبعدما قرَّر أغْلَب العرب منذُ نَحْوِ رُبْع قرن أنَّ الصِّراع لم يَعُدْ «عربيًّا» بل تقلَّص إلى «فلسطينيٍّ»، يسعَى الاحتلال الآن لتقليصِ الأمْرِ أكثر عَبْرَ «حلٍّ نهائي» على طريقة هتلر، وأنَّه «مُشْكلة داخليَّة في الكيان المؤقَّت».

بل للأسف يساعد بعض العرب في تسهيل ذلك للعدوِّ بقَبول وصفِ «الإرهاب» للمقاوَمة للاحتلال!! المُهمُّ في النِّهاية أن ندركَ أنَّ كُلَّ ما تمرُّ به المنطقة، وفي القلبِ مِنْه الصِّراع مع الاحتلال الصهيوني، هو «مؤقَّت»، وأنَّ الباقي في النِّهاية هو ما نسعَى للحفاظِ عَلَيْه ولو حتَّى بطريقة «أضعَف الإيمان». ولْيبقَ مَن يُقاتِل مقاتِلًا ومَن يُفاوِض مفاوِضًا، ولْندعَمْ كُلَّ مَن يُمكِنه إبقاء قضيَّة فلسطين حيَّة حتَّى تتحرَّر.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]